لم تتوقف حالة السقوط التي تعانيها “هيئة تحرير الشام” على متزعّمها أبو محمد الجولاني، في الآونة الأخيرة، فإلى جانب تصاعد وتيرة الاحتجاجات الشعبية التي خرجت ضد “الهيئة” في معقلها بمحافظة إدلب شمال غربي البلاد إثر اعتراض الأهالي على إدارتها، شهد هذا التنظيم كذلك حالة من تمرّد قياداته، من بينها انشقاق المسؤول الأمني والمالي، أبو أحمد زكور المكنى بـ”عيسى الشيخ”، والمعروف أيضاً بـ”الصندوق الأسود”، من خلال بيان نشره على مواقع التواصل الاجتماعي انتقد فيه الجولاني وطريقة إدارته لـ”هيئة تحرير الشام”، وسبقه بثلاثة أشهر القبض على ميسرة الجبوري “أبو ماريا القحطاني” بعد اتهامه في بيان رسمي بـ”العمالة لجهات خارجية”.
حتى الآن لا تزال شخصية الجولاني، مثيرة لمتابعي ملف مكافحة الإرهاب الدولي، والمعنيين بتحليل العمق السوري، في ظل تحولاته الفكرية والتنظيمية التي يتدرج بينها على مدار السنوات الماضية، بين الإطار التكفيري والتوجه السياسي.
تحولات الجولاني، تُبرز برغماتيته وإيمانه بمآلاته الخاصة، في ظل انفصاله عن تنظيمي “القاعدة”، و”داعش”، وتفرده في قيادة “هيئة تحرير الشام”، ومحاولات تقلده الرمزية الروحية والزعامة المكانية، لا سيما أنه تربي في كنف “أبو مصعب الزرقاوي”، وعدم إيمانه بالديموقراطية الليبرالية، أو حتمية السيادة الشعبية في الحكم.
التمعن في التاريخ التنظيمي لأبو محمد الجولاني، يبرز تأثره باستراتيجيات القتل والعنف، التي يعمل من خلالها على السيطرة والتمدّد في عمق مدن الشمال السوري، إضافة إلى أنه لا يمكنه التخلّي والانخلاع عن الإطار الفكري وأدبياته، إيماناً بالمشروع السياسي أو الوطني، لا سيما أن غالبية تجارب الأصوليين في الحكم، فشلت في الانتقال من “فقه التنظيم”، إلى “فقه الدولة”، في إطار تبنيهم لمفاهيم عدائية مع مفردات “الدولة الوطنية”، وتطبيقاتها العملية في العمق المجتمعي.
إن السقوط المدوي للمشروع القاعدي والداعشي في المنطقة العربية فكرياً وحركياً، في مقابل الصعود الطالباني الأفغاني سياسياً، دفع الجولاني إلى تعديل توافقاته والنزوح نحو المشروع السياسي المغلف بالإطار الوطني كبديل لفكرة الهيمنة على الساحة الجهادية، سعياً في الاستمرارية والبقاء، والتماهي مع الأجندة الغربية، التي تجيد صناعة وكلائها وفق مشروع “المليشيات الحاكمة”.
في إطار التسويق السياسي، حاول الجولاني، تغيير الخطاب الإعلامي لـ”هيئة تحرير الشام”، من التشدّد إلى الاعتدال، ومناهضة فرض تطبيق “الشريعة الإسلامية”، وإلغاء الشرطة الدينية (هيئة الحسبة)، وكذلك استبدل زيه التقليدي بالملابس العصرية الحديثة، فضلاً عن تقديم مشروعه في وضعية الدفاع عن الأقليات في مناطق سيطرته في إدلب، وريف حلب الغربي، وريف اللاذقية، وسهل الغاب، من خلال السماح بإعادة افتتاح كنيسة “القديسة أنّا” في قرية اليعقوبية بريف إدلب، والتي تعتبر من أبرز الكنائس وأكثرها شهرة وقدماً، إضافة إلى التقائه بوجهاء الطائفة الدرزية بالشمال السوري.
يضع الجولاني في مقدمة أولوياته النأي بـ”هيئة تحرير الشام” عن “الدائرة الجهادية العالمية”، وفقاً لتقرير مركز أبحاث “مجموعة الأزمات الدولية” (القريبة من الداوئر السياسية الأميركية)، وطرحها كقوة مسلحة متماسكة في مواجهة الحكومة السورية، تعمل على إعادة تشكيل مستوياتها العسكرية والأمنية والاجتماعية، وليس ككيان تنظيمي تغلفه التوجهات الفكرية المتطرّفة، سعياً في اعتمادها ضمن مفردات “النظام السياسي” في حال انتهاء الصراع الداخلي.
ولأن الرياح تأتي دائماً بما لا تشتهي السفن، شهدت مناطق الشمال السوري، احتجاجات شعبية خلال الفترة الماضية، تطالب بإسقاط وتنحي زعيم “هيئة تحرير الشام”، وكسر الاحتكار المفروض من جانبه على المشهد الاقتصادي والسياسي والأمني، وإخلاء السجون من المظلومين والمفقودين، وحلّ جهاز الأمن العام، والتنديد بفرض الإتاوات، واستخدام القمع الأمني.
ويضاف لحركة الاحتجاجات، الصراع بين تيار الصقور داخل “هيئة تحرير الشام”، والذي يبرز التحولات والتغيّرات التي يجريها الجولاني، في إطار مشروع “بناء الدولة الجديدة”، وتمرير البروباغندة الإعلامية التي تصنع منه زعيماً سياسياً في مخالفة للتوجهات والأسس الفكرية التي قامت عليها “جبهة النصرة”، قبل أن تتحول إلى “هيئة تحرير الشام”، في 28 يناير 2017، وارتباطاتها السابقة بتنظيم “القاعدة”، وتكفير المشروع السياسي واتخاذ الجهاد المسلح سبيلاً في الهيمنة على البلدان العربية، فضلاً عن الخلافات حول تقسيم النفوذ والثروة في مناطق سيطرة “الهيئة”.
التحوّل الفكري والسياسي في بنيوية المجموعات المسلحة، مثل “الحوثيين” في اليمن، و”الحشد الشعبي” في العراق، و”حركة الشباب” في الصومال، وحركة “طالبان” في أفغانستان، و”حزب الله” في لبنان، وحركة “حماس” في غزة، تمثل تطبيقاً عملياً لاستراتيجية “المليشيات السياسية الحاكمة”، التي تحمل في طياتها تنفيذاً لمشاريع “التقسيم الجغرافي”، التي وضعها برنارد لويس، بهدف تحويل دول المنطقة العربية والشرق الأوسط، إلى دويلات خاضعة وعاجزة.
وتتقاطع هذه التحولات أيضاً مع نظريات المفكر الأميركي “زيغينو بريغنسكي”، المعروف بـ”مهندس الجهاد الأفغاني”، الذي دعا إلى تفكيك النظام الإقليمي العربي، من خلال توظيف الأصولية الإسلامية في تحقيق دائرة المصالح الأميركية، تحت لافتة صحوة “الديموقراطية العالمية”، والتي تدفع إلى وصول التيارات الإسلامية للحكم، مما يعزز ويساهم في خلق انقسامات طائفية ومذهبية في العالم العربي والإسلامي، مع استمرار استراتيجية مكافحة الإرهاب وإثارة الفوضى والحرب في المنطقة.