تحوَّلت الصورة الظاهرية للحدث السوري في العالم، بدءاً من عام 2011 وحتى اللحظة الراهنة، من حراك شعبي إلى ثورة، ثم إلى مواجهة مسلحة، ثم إلى حرب أهلية، ثم إلى حرب بالوكالة، ثم إلى كارثة، ثم إلى أزمة مستعصية، ثم إلى انعدام الأمل، وأخيراً الإفلاس العام، وهذا الأخير ليس له من اسم معادل سوى الهزيمة الشاملة: أي هزيمة الدولة والسلطة والنخب والمجتمع. تخيلوا أن هذه التحولات كلها قد مرت أمام أعيننا، ولنتخيّل أيضاً حجم التحولات الروحية التي رافقتنا خلالها. هذه لوحدها تبعث في الروح الرغبة في الصمت والتأمل أكثر من أي شيء آخر. لنعترف بالحقيقة المرّة: ليست لدينا أي حلول ولا أبواب مفتوحة أمامنا، ولا أحد يهمّه أمرنا أو يكترث لمصيرنا. أمام هذه الصورة القاتمة، والمؤلمة، ما هو العمل السوري الموازي الجاري، على مستوى الثورة والمعارضات السورية؟
تستمر الثورة السورية، أو ما بقي منها، في التشظي والافتقاد إلى بؤرة مركزية أو بوصلة، ما يعني غياب الخط التراكمي المنتج. بعد ثلاثة عشر عاماً ليس هناك شيء بين أيدينا يمكن أن نسند ظهورنا إليه أو نتكئ عليه. معظم ما هو موجود يطير أو يتبخَّر بنفخة هواء أو هبة ريح (قوى سياسية، فصائل، تجمعات، إعلام، دراسات، فِرق، غرف واتس… إلخ). ثمة مبادرات عديدة لكنها لا تراكم شيئاً، بعضها ذاتيّ الطابع، مفصَّل على مقاس أفراد أو بؤر “ثورية” منتشرة هنا أو هناك، أو مؤسَّسات أو طوائف أو أحزاب أو جماعات إثنية… إلخ. ألا يصبُّ “العقد الاجتماعي” المفصَّل على مقاس أحد الأحزاب في هذا النهر الراكد والهش؟! يقينًا إن كلَّ مبادرة ليست بحجم سوريا لا يُعتدُّ بها، بل خطوة في طريق الضلال أو إعادة إنتاج الضلال.
ومثلها الندوات والمؤتمرات المتعلقة بسوريا؛ إنها ليست أكثر من ممارسة لهواية الاجترار، ولإنتاج “العلاك” أو إعادة إنتاجه، يغيب عنها إنتاج الأفكار وآليات العمل الجديدة. يحرِّكها سعيٌ حثيث لإثبات الحضور ونيل الرضا وحسب، والنقد السياسي الذاتي الذي سار فيه بعضهم لم يكن صادقاً، فمحرِّكه الرئيس كان البحث عن طريقة للاستمرار. لا توجد صدقية لدى “النخب” في توصيف الواقع، والرغبة أو الذات تقف فوق التحليل. لم تعتذر النخب عن قراءاتها وتحليلاتها إلّا عندما أصبح الواقع الأسود يفقأ العين، ويعرفه كلُّ صغير وكبير، خصوصاً ما يتعلق بالعمل العسكري والتدخل الخارجي والمراهنة على الدول وتوصيف قدرة النظام والسير في ذيل “الإسلام السياسي” والخطاب الشعبوي.
أصبح إنتاج التحاليل السياسية أو القراءات السياسية للواقع السوري أمراً مثيراً للسخرية؛ تحاليل تنطلق من الموقف السياسي أو تقرأ الواقع بوحيه، وتريد إثباته عنوة، والأهم أنه لا توجد جهة سورية مؤهلة للاستفادة من هذه التحاليل والعمل في ضوئها. تحاليل سياسية في ظل حقيقة أن أغلبية السياسيين لا يقرؤون، وعملهم كلّه يقتصر على انتظار دعوة من سفارة ما أو قناة فضائية هنا أو هناك تبحث عن ملء شاشتها بمساحة أو شخص ما ليس أكثر. أما الدراسات المجتمعية أو الاجتماعية، فإنها تثير الغثيان هي الأخرى؛ دراسات تدرس قوى موقَّتة أو زائلة أو قوىً جعلتها دول ما ذات قيمة ووزن، أو دراسات تدرس آراء من لا رأي لهم وتبني عليها حقائق اجتماعية وسياسية. هذه ليست بحوثًا يمكن أن تؤسِّس. في حالنا الراهن نحتاج حقاً إلى ما هو تأسيسي؛ تأسيس على مستوى التفكير والوعي والرؤية والنظر والفهم.
لا يوجد اتفاق، لا على المستوى السوري العام، ولا على المستوى “الثوري” أو “المعارض”، على طبيعة الحل؛ الاتفاق على طبيعة النظام السوري ورحيله لا يعني مطلقاً أننا شركاء أو متفقون. لا يوجد اتفاق على طبيعة الدولة ولا على ماهية الوطن، ولا على من هو السوري أو الشعب السوري؛ وجهات النظر السائدة عموماً “أقل كثيراً من سوريا أو أكبر كثيراً من سوريا”، والوطنية الديمقراطية السورية، باب الأمل الوحيد، تكاد أن تكون يتيمة.
ليست “القوى السياسية” السورية وحدها هي التي خضعت للعبة “الأواني المستطرقة، حيث السائل يأخذ شكل الإناء الذي يوضع فيه”، بل المجتمع السوري كله. خضع السوريون في معظمهم لهذه اللعبة وكانوا أقرب إلى السوائل في أدائهم، فالسوريون -في كل مكان تقريباً- أخذوا شكل الإناء أو الدولة التي “احتضنتهم” فتطبعوا بطباعها وتبنوا مواقفها وسياساتها. الروحية النفسية للسوريين في تركيا مختلفة عن روحية السوريين في أوروبا والخليج والأردن ومصر، وبالضرورة عن روحية السوريين داخل سوريا، فلكلٍّ همومه وآلامه وتطلعاته وهواجسه وحساباته. نحن لم نكن شعباً طوال نصف قرن، وكانت لحظة الثورة في 2011، ونسبيًا حتى 2012، لحظةً فارقةً تحمل إمكانات تحولنا إلى شعب حقاً، ولكننا أخفقنا. اليوم نحن جماعات موزعة في مناطق مختلفة من العالم، ليس بالمعنى الطائفي أو الإثني وحسب، بل بمعانٍ أخرى اجتماعية واقتصادية وثقافية وروحية. نحن اليوم أبعد كثيراً من أن نكون شعباً من كلِّ اللحظات ما قبل عام 2011. توزعنا أو تناثرنا الجغرافي ما بعد 2011 زاد المسافة التي تفصلنا عن التحول إلى شعب.
تطعَّمت “الثورة” في شمال غرب سوريا، عموماً، بنكهة مغايرة لنقطة الانطلاق في 2011، ولا تشبه سوريا. ما زال كثيرٌ من “الثوار” هناك ينادي بـ “فتح الجبهات” و”الرباط على الثغور”. استمرار هذا الخطاب بعد ثلاثة عشر عاماً من الهزيمة العميقة دليلٌ على أن كارثتنا طويلة الأمد. شعارات التظاهرات في شمال غرب سوريا مغايرة لشعارات التظاهرات في السويداء؛ “الثورة” أصبحت “ثورات”. يقفز إلى أسماعك خطابٌ من أحدهم ينادي بـ “القبض على الجمر”!، ولكن أي جمر؟! بعضنا، وأنا منه، يرى أن هذا الجمر الذي يريد صاحبنا منا الاستمرار في القبض عليه هو عامل رئيس لإدامة كارثتنا إلى أمد غير معلوم، ووسيلة لحرقنا جميعاً بناره، سواء أدركنا هذا أم لم ندركه.
لا توجد بين يدي “المعارضات” السورية قواعد أو تقاليد متفق عليها في العمل والأداء السياسي، وجوهر أعمالها يرتكز على إما على “السبحانية” أو انتظار ما تجود به الدول. لقد ربطت القوى والمعارضات نفسها بالدول، ولا تملك شيئاً تقدِّمه لسوريا والسوريين. أصبح دور الخارج، بدءاً من عام 2012، أكثر فاعلية وحسماً في الوضع السوري، وأوراق الحل في اللحظة الراهنة تكوَّمت بين يدي الخارج (أميركا، روسيا، إيران، تركيا، الخليج، إسرائيل… إلخ)، والسوريون خارج اللعبة المعنية ببلدهم.
“الائتلاف الوطني” موضوع على الرف منذ زمن طويل، متحوِّلاً إلى شركة مغلقة على ملّاكها، ولا يفعل شيئاً سوى انتظار تركيا، و”قسد” تنتظر أميركا، والنظام يراهن على الوقت كعادته، والعالم ينتظر التخلص من عبء القضية السورية، والسويداء تنتظر سوريين لن يأتوا! و”ثوار” شمال غرب سوريا ينتظرون فتح الجبهات! وإيران تعشش في سوريا، وإسرائيل تصول وتجول، وأميركا لها جدول أعمالها، وغير معنية بأحد، ولا تنتظر أحداً، ولا يُقلقها أو يزعجها أن ينتظرها الآخرون. واللاجئون والمعتقلون ينتظرون رحمة الرب! سوريا والسوريون ليسوا في بال أحد، لا في بال الدول، ولا في بال أكثرية السوريين، ربما بحكم إنهاكهم وتعبهم الروحي أو بحكم أن كلَّ جهةٍ أو طرف أو جماعة تريد من سوريا حصتها وحسب! هل من إفلاس أكبر من هذا الإفلاس؟!
النظام السوري مصيبة كبرى، وعقبة رئيسة، لكنه ليس الأوحد في هاتين الخصيصتين. كلُّ موقف ضد النظام السوري لا يعتدُّ به إن لم يلازمه موقف مضاد للتطرف الديني، ولبيع سوريا في سوق النخاسة الدولية أو تحويلها إلى دويلات. يعني هذا ضرورة مقاربة الوضع السوري خارج إطار ثنائية السلطة والمعارضة المترسِّخة في أذهان أغلب “المعارضات”، أي لا بدَّ من العمل بدلالة المشروع الوطني الديمقراطي السوري، لا بدلالة السلطة، وهنا فقط نصبح معنيين بالبحث عمَّن يتفق مع مشروع الوطنية الديمقراطية ومن لا يتفق معها. ظهر عموماً أن التيارات الإسلامية في معظمها لا تتفق. العمل بدلالة السلطة قادنا إلى إنتاج خطابات سياسية وإعلامية مماثلة لخطابها (الطائفية والتطرف)، وآليات عمل موازية لآليات عملها (السلاح، الاستعانة بالخارج). الخطاب السياسي في حاجة إلى حملة تنظيف واسعة من عديدٍ من المفردات والمفهومات: الرباط على الثغور، حتمية الانتصار، الكراهية، الطائفية، الإثنية، مديح الدول أو ذمها، الشحادة والتسول والنواح والصراخ… إلخ. الخطاب الذي لا يأخذ في الحسبان أنَّ أجيالاً سورية جديدة كبرت ونمت، بدءاً من 2011 إلى اليوم، لا يعتدُّ به ومفصول عن الواقع. لسنا في عام 2011، وهناك أجيال أخرى لا تهمّها ثنائية الموالاة والمعارضة، ولا تكترث للمعارك الدائرة، وتريد فسحة من الأمل للعيش وحسب.
نحتاج كسوريين، إن جاز التعبير، إلى إعلان ما يشبه “النعوة”؛ “نعوة” مجازية بالطبع، ولكن صادقة وحقيقية، للدولة السورية والنظام السوري والمجتمع السوري والثورة السورية والمعارضات السورية. “نعوة” تمتثل إلى مقولة “إكرام الميت دفنه”؛ دفنٌ قد يعيدنا إلى لحظة الصفر، لحظة التفكير الأولى التي ربما تكون، أو نأمل أن تكون، بداية خلق جديد، انطلاقاً من استقلال الوجدان وحرية الضمير (أو مقولة الصفحة البيضاء التي كان يكرِّرها إلياس مرقص، جاعلاً منها شرطاً لإنتاج معرفة تمكِّن إنشاء صورة الواقع، كما هو، في أذهان الفاعلين).
في فيلم (أيام السادات)، يتحدّث السادات (أحمد زكي) إلى زوجته جيهان (ميرفت أمين)، بعد أن وصلت أحوال الصراع العربي الإسرائيلي إلى طريق مسدود، ولم تستطع مصر استرجاع الأراضي العربية المحتلة عام 1967، قائلاً: عارفة يا جيهان لعبة الدومينو؟ لمّا اللعبة تقفل لازم نهدّ الدور ونلعب دور من أول وجديد”، ويقصد أن اللعبة السياسية عندما تصبح مسدودة الآفاق، ولا شيء يُرتجى من الاستمرار فيها، فإنه من العبث الاستمرار في اللعبة نفسها بآلياتها وأدواتها، ولا بدّ من إنهاء هذه اللعبة، والبحث عن لعبة سياسية جديدة.
في سوريا، كانت اللعبة السياسية مغلقة حكماً منذ أواخر 2013 على أقل تقدير، ولا شيء يُرتجى منها، لكنَّ سطحية وشعبوية، وأحياناً ضحالة تفكير “الطبقة” السياسية السورية المعارضة، وغالبًا ضلال الرؤية السياسية وخطلها، هذا كلّه دفعها للاستمرار في هذه اللعبة المسدودة والمدمِّرة، بالآليات والأدوات والخطابات والرؤى ذاتها، من دون أن تصمت وتتأمل للحظات، إلى أن أصبحت هي ذاتها لعبةً تتسلّى بها الدول من جانب، ومحطَّ شتيمة للسوريين من جانب آخر. يتابع السادات في الفيلم قائلاً: لا يمكن للإنسان أن يجري تغييراً في الواقع من دون أن يُجري تغييراً في أفكاره.
بصرف النظر عن رأينا في السادات، وعمّا آلت إليه تصوراته، لكن الفكرة تبقى صحيحة؛ لا بدّ من عقل آخر مغاير لكلِّ المقاربات السابقة على المستوى السوري، ولا بدّ من شخصيات وقوى وأدوات وآليات عمل مختلفة تماماً عمّا هو سائد منذ عام 2011 على الأقل. إنَّ إغلاق الباب نهائياً، ومن دون أي مجاملات، ومن دون أسف، أمام العقل السابق، بما فيه من رؤى وآليات وممارسات سياسية، شرطٌ أوليٌّ ورئيسٌ، لكنه غير كافٍ، لإعادة بناء مقاربة أخرى جديدة يمكن أن تفتح ثغرة في واقعنا المسدود أمام طموح السوريين نحو شيءٍ من الحرية والكرامة.
ماذا بقي من ثورة 2011؟ بقي منها أنها حركت الساكن، وفتحت الباب على مصراعيه للتفكير والتغيير، وأما ضريبتها الثقيلة فكنّا، بمنطق التاريخ، سندفعها عاجلاً أم آجلاً. وهنا تأتي مسؤولية جميع السوريين في ألّا يسمحوا لهذه الضريبة أن تمنعهم من إنتاج وطن ودولة لائقين. فمهما بلغ سواد الواقع وكارثيته هناك دائماً أفكار وطرائق وآليات عمل ينبغي لنا البحث عنها، يمكنها أن تخفِّف، على الأقل، من ظلاميته.