سيلدا يوسف/خاص ـ دمشق
بعبارة “مهنة المتسولين تشويه سمعة الفقراء”، يمكننا فهم واقع الكثيرين في سوريا، الذين يعيشون حياة مليئة بالصعوبات بسبب ضيق الحال. أحد هؤلاء هو يامن عمّار، فتى في العاشرة من عمره، يبتلع مرارة الفقر في شوارع دمشق، حيث ينام على الرصيف وثيابه القديمة لا تحميه من برودة الشتاء.
رغم جهوده في العمل بعدة محلات، يواجه يامن رفضاً وازدراءً، وإذا تم قبوله للعمل في أحدها، فإن الأجر الذي يحصل عليه لا يكفي لإشباع جوعه وجوع أمه وإخوته الصغار، فهو يقيم في شقة بسيطة “على العظم”، بدون كهرباء أو تدفئة، وما تجنيه أمه من خدمة البيوت لا يكفي حتى لدفع نصف إيجار الشقة.
وسط هذا اليأس، لم يتبقَ ليامن سوى أن يحمل علبة صغيرة تحتوي على بضع قطع من البسكويت، يتجول بها أمام المارة، يأمل أن يشتروها أو يتصدقوا عليه، في حين يتخيل الطفل في كل لحظة كيف يمكن له أن يستخدم النقود التي يجنيها لشراء الطعام لإخوته الصغار وسد رمقهم المتعب.
ليس كل متشرد متسوّل
ويُمكن تقدير واقع يامن على ضوء الآلاف ممن يشبهونه في سوريا، حيث تنتقل ظاهرة التسوّل في بعض الحالات إلى مرحلة المهنة التي تُشوّه النسيج الاجتماعي، وتتعارض مع العادات والتقاليد المبنية على المساعدة والإغاثة للمحتاجين.
وبحسب صحيفة محلية، تقدر بعض الدراسات الاجتماعية أن أعداد المتسولين في سوريا، عام 2023، بلغ حوالي 250 ألف متسول في مختلف المحافظات، 51.1 في المائة منهم إناث، و49.9 في المائة ذكور. كما أن 4.64 في المائة منهم يمارسون التسول بشكل احترافي، ويشكل الأطفال 10 في المائة من العدد الإجمالي، أي حوالي 25 ألف طفل.
إلا أن هناك فارقاً بين التسوّل والتشرّد، حيث يُفرض التشرّد من قبل ظروف اقتصادية ومعيشية صعبة، مما يجعل المتشرّد يبحث عن مأوى دون استغلال حالته لجذب الرحمة والمساعدة. أما التسوّل، فيكمن في طبيعته استغلال مشاعر الناس بطرق غير واقعية، وتتضمّن الكثير من النصب والاحتيال. فيما يرى مدير مكتب مكافحة التسول في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل السورية علي الحسين، أن “التسول مهنة سريعة الربح، والتشرد قد ازداد ثلاثة أضعاف نتيجة ما حدث في سوريا في الأعوام العشرة الأخيرة”.
وتعتبر ظاهرة التسوّل موجودة منذ القِدم في مجتمعات عدة، وقد جسّدتها الأعمال الأدبية والفنية بشكل متكرر، وحذّرت من التعامل مع ممارسيها بسبب عدم وجود حاجة حقيقية للمساعدة. وغالباً ما تُستغل هذه الشريحة لجمع الأموال بطرق غير مشروعة، وقد وصل البعض إلى درجة تشويه أجسادهم أو تصنيع إعاقات لجذب الرحمة وسلب الناس أموالهم.
وفي إحدى لوحات مسلسل «مرايا» السوري، عرض الممثل ياسر عظمة حياة موظف سوري، وكيف ترك مهنته كمحقق ليعمل في التسول، حيث اكتشف حينها أن دخل المتسول شهرياً هو أضعاف الموظف السوري في سوريا، وذلك في عام 1997، فكيف اليوم ودخل المواطن السوري يحتاج عشرات الأضعاف من راتبه الشهري لكي يتمكن من العيش في سوريا، إذ ازدادت هذه الظاهرة بقوة بفعل الحرب وأصبحت وسيلة للبعض لجني الأرباح بطرق غير قانونية، وتحولت لمهنة مربحة تدر ذهباً على ممارسيها.
“المساعدة صدقة”
في كل زاوية من زوايا دمشق وبقية المدن السورية وأريافها، تجد المئات من المتسولين. يتحدث هؤلاء لغة واحدة، يتوسلون المساعدة والأموال لكي يحصلوا على ما يكفي لقمة عيشهم. ليس غريباً أن تجدهم يدّعون دخول نصف عائلتهم إلى المستشفى أو وفاة معظم أفراد عائلتهم، ليبرروا حاجتهم إلى المساعدة ويؤمّنوا الطعام واللباس والدواء.
من المؤكد أن التعميم غير دقيق، حيث يوجد بين هؤلاء من هو بحاجة حقيقية وماسة للمساعدة، مثل إبراهيم دعبل، البالغ من العمر ستين عاماً، والذي يتسوّل بجوار مقهى في ريف دمشق، بسبب فقدانه لأطراف جسده جراء الحرب، وتهجير من تبقى من عائلته على قيد الحياة إلى مناطق بعيدة. ومع ذلك، يتسوّل الكثيرون ممن لا يحتاجون فعلاً للمساعدة، وهم بكامل قواهم الجسدية والعقلية ويمكنهم العمل لتوفير معاشهم اليومي.
مع ارتفاع أعداد المحتاجين نتيجة الحرب والغلاء المعيشي، تدخلت معظم الجمعيات الأهلية والمجتمع المحلي لمساعدة هؤلاء الأشخاص، وقامت بتنظيم جداول تحدد أنواع المساعدة التي يمكنهم تقديمها. وعلى الرغم من ذلك، فإن العديد من المتسولين لم يتخلوا عن أساليبهم، وظل الكثيرون منهم في في ممارسة مهنة التسوّل، ومصرّون على متابعته لأنهم يرون فيه مصدراً للدخل.
وتجرم القوانين هذه الظاهرة السلبية وتفرض قيوداً صارمة على المتسولين، لكن الجهات المسؤولة عن تنفيذها يتجاهلونها في معظم الأحيان، مما يتيح للمتسولين ممارسة حيلهم واستغلال تعاطف الناس معهم.
أثناء استطلاع آراء بعض الأفراد حول هذه الظاهرة، تباينت الآراء. بعضهم اعتبر مساعدتهم صدقة، حتى لو علموا أنهم غير صادقين، مؤكدين أنهم يقومون بواجبهم الإنساني والأخلاقي والديني.
يقول يوسف خير بك، صاحب محل في أحد أسواق دمشق، لـ”963+” إنه يتبرع ببعض ماله للمتسولين، ويشاهدهم كثيراً، ويعتبر ذلك واجباً إنسانياً. بينما تقول طالبة الهندسة نهاوند المصري، إنها في بعض الأحيان تساعدهم بجزء من مصروفها الذي تحصل عليه من أسرتها للذهاب إلى الجامعة، كما تبنى زميل لها في الجامعة نفس الموقف دون الكشف عن هويته.
في محاولة يائسة للتحدث مع أحد المتسولين، رفضوا جميعهم الأمر أو ردوا بنبرة حادة، حتى وصل أحدهم إلى التهديد المباشر وطلب منا عدم الاستفسار عن هذا الموضوع.
أسباب وحلول
وفي قسم علم الاجتماع بكلية الآداب، وهو معني برصد الحالات الاجتماعية، اعتبرت الدكتورة في علم النفس ولاء يوسف، أن زيادة ظاهرة التسوّل تعود إلى عدة عوامل، “مثل ارتفاع معدلات البطالة والفقر في المجتمع، وتفكك العلاقات الاجتماعية والأسرية”.
وأشارت يوسف في حديثها لـ”963+”، إلى أن تلك العوامل “جعلت التسوّل مهنة يومية وتجارة مربحة، خاصة في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها المجتمع”. كما لفتت إلى أن “وجود أفراد معوقين وانخفاض تقدير الذات لديهم يلعب دوراً في زيادة هذه الظاهرة”.
وبالنسبة للحلول، أكدت الدكتورة يوسف على أهمية العمل على تقليل انتشار الفقر والبطالة من خلال توفير فرص عمل مناسبة، بالإضافة إلى وضع قوانين محلية أكثر صرامة للحد من انتشار التسوّل في المجتمع، وتوجيه الأفراد إلى مكاتب التوجيه المهني لتفعيل طاقاتهم واستخدامها بشكل إيجابي، وإنشاء جمعيات خيرية تهتم بتقديم المساعدة للمحتاجين.
من جهته، أشار الدكتور في قسم علم الاجتماع بجامعة دمشق أسامة محمد، إلى أن الأسباب تعود إلى الوضع الاقتصادي والمعيشي وضعف الدخل. وتوقع في حديث لـ(963+) أنه “في حال استمرت الأمور على حالها فإن أعداد المتسولين ستزداد بشكل كبير”.
وعلى الرغم من ذلك، أشار محمد، إلى أن الحل لا يكون إلا في معالجة جذرية للوضع المعيشي، لأن الكثير من السوريين بحاجة للمساعدة ولكنهم يرفضون امتهان التسوّل.