بيروت/بروكسل
تتحرّك أسعار الذهب وأسعار الدولار بصورة متعاكسة. فإذا ارتفع سعر الدولار تراجعَ سعر الذهب، والعكس صحيح. وبالتوازي، فإن قرارات الاحتياطي الفيدرالي الأميركي حول أسعار الفائدة، تُبقي العملة الخضراء والمعدن الأصفر في حالة تأهّب. وينعكس ذلك على قرارات أصحاب رؤوس الأموال الذين يراقبون القرارات الأميركية للتصرّف على أساسها، إما باللجوء إلى الدولار أو الاحتكام إلى الذهب كملاذ أكثر أماناً. فما هي طبيعة العلاقة بين الذهب والدولار وانعكاسها على الاقتصاد؟.
الاحتياطي الفيدرالي وأسعار الفائدة
يقرّر المصرف المركزي الأميركي المعروف باسم الاحتياطي الفيدرالي، تحديد أسعار الفائدة وفق الظروف الاقتصادية للبلاد. وتنتظر باقي دول العالم والمستثمرين ذلك القرار لتحديد مصير الاقتصادات المحلية والاقتصاد العالمي وحركة الاستثمارات. فإذا ارتفعت أسعار الفائدة، زاد الطلب على الدولار وانعشت أرقامه إذ يصبح مطلوباً نظراً للفوائد المرتفعة على إيداعاته. أما خفض أسعار الفائدة، فيعني تقليص الطلب على العملة الخضراء، وحُكماً، تراجع أسعارها.
هُنا، تتّجه الأنظار نحو الذهب كحافظ للقيمة. فإذا تراجع سعر الدولار، تقلّص الاهتمام بشرائه. وخوفاً من تراجع قيمته، يلجأ المستثمرون إلى الذهب، ويُحجِمون عن تداول الدولار بشكل كبير. فالذهب يُبقى على الثروة محفوظة في أوقات الأزمات الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وفي تلك الحالة، لا يبادر المستثمرون إلى طرح دولاراتهم في السوق، بل يشترون بها الذهب. وهذا الاتجاه حصل فعلاً وبشكل لافت في أعقاب الأزمة المالية العالمية في العام 2008، وكذلك وسط انتشار فيروس كورونا بين العامين 2020 و2022.
في الوقت الراهن، يميل الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى خفض معدلات الفائدة لديه، وهو ما عبَّر عنه، يوم الجمعة 8 مارس/ آذار، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، مستنداً إلى تراجع معدّلات التضخّم في الولايات المتحدة ما انعكس سلباً على أسعار الدولار وعزَّزَ مكانة بعض العملات الأجنبية مقابل العملة الأميركية، إذ ارتفع سعر صرف الين الياباني مدفوعاً باحتمالات رفع أسعار الفائدة في اليابان. وكذلك ارتفع سعر صرف اليورو في التعاملات الآسيوية إلى نحو 1.09 دولار، وهو أعلى مستوى له خلال نحو شهرين. علماً أن البنك المركزي الأوروبي، أبقى يوم الخميس 7 مارس/ آذار،سعر الفائدة الرئيسي عند 4 بالمئة، ومهَّدَ لخفض السعر في يونيو/حزيرانالمقبل، ومع ذلك ارتفع سعر صرف اليورو لأن احتمالات خفض سعر الفائدة في الولايات المتحدة أعلى وأسرع، ما شكَّلَ عامل قوّة لليورو مقابل الدولار.
ويشار إلى أن أسعار الفائدة هي القيمة التي يعطيها المركزي الأميركي للمصارف لقاء إيداعها الدولارات لديه. وبدورها، تلجأ المصارف إلى جذب السيولة، فترفع معدلات الفائدة لديها بما يوازي فائدة البنك المركزي. المفاضلة التي تجريها المصارف لتخلص بنتيجتها إلى تجميد السيولة لقاء فائدة مرتفعة، تنعكس على الاستثمارات. فأصحاب رؤوس الأموال يُحجمون عن ضخ السيولة في الاستثمارات، ويتّجهون نحو المصارف كسباً لأسعار الفائدة. فيتراجع عرض النقد في السوق ويتقلّص الطلب على الاستهلاك والاستثمار، فتتراجع الأسعار ومعها معدّلات التضخّم.
أما في حال خفض سعر الفائدة، فيصبح الاستثمار أكثر ربحاً من تجميد الأموال لقاء فائدة متدنية. فتخرج الأموال إلى السوق ويزيد الطلب عليها، فترتفع قيمة النقد ويتحفَّز الإنتاج والاستهلاك.
الذهب يعزّز مكانته
الإشارة إلى خفض سعر الفائدة في المركزي الأميركي وتراجع سعر الدولار، عزَّزَ موقع الذهب الذي ارتفعت أسعاره يوم الجمعة 8 مارس/ آذار إلى نحو 2157.16 دولار للأونصة. ويُتَرجَم ذلك اقتصادياً بتراجع الطلب على الدولار خوفاً من انخفاضات إضافية وخسائر محتملة. فيبقى الذهب في هذه الحالة أكثر أماناً.
في الواقع، ليس سعر الفائدة الذي سيقرّره الاحتياطي الفيدرالي وحده المؤثّر في تحديد سعر الذهب. فحالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في العالم، وخصوصاً في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا وقطاع غزّة، تساهم في رفع أسعار الذهب بفعل إحجام المستثمرين عن ضخ السيولة في المشاريع في أي بلد على تماس مباشر مع أماكن الحروب لأن الأصول في تلك الدول غالباً ما تكون مهدّدة والاستثمار محفوف بالمخاطر، فيلجأ المستثمرون للذهب، وينتظرون الانفراجات السياسية لتبدأ ورشة الاستثمارات. وبالتأكيد، لا غنى للمستثمرين عن السيولة الدولارية، حتى وإن كان الذهب أكثر أماناً لقيمة السيولة. فالذهب لا يزيد الأرباح بشكل لافتٍ على عكس ضخ الاستثمارات في العملية الإنتاجية.
لا غنى عن الذهب والدولار لإنجاح الاقتصادات. والمفارقة تبقى في كيفية التعامل مع المتغيّرات السياسية والاقتصادية، لتفادي الانعكاسات السلبية لأنها ستؤثّر على العملة والاقتصاد من خلال ارتفاع نسب البطالة والتضخّم وتسجيل مزيد من الانخفاض في القدرة الشرائية للعملة.