خاص – نبيل الجبوري/بغداد
يجمع الصياد السبعيني محمد عباس، عدة الصيد، ويخرج قاربه الصغير من مياه هور الدلمج الذي يقطع قرابة الثمانين كيلومتراً قبل الوصول إليه، عائداً إلى منزله ترافقه خيبة أمل لخلو سلته من السمك.
وكان يأمل عباس، أن يعود بصيدٍ وفير من الأسماك يسدّ به مصاريف التنقل والوقود والمبيت لعدة ليالٍ في برد قارس بسبب طبيعة الهور في منطقة الصيد التي يقصدها.
واعتاد عباس، أن يخرج مع شريكه في العمل وولده الأصغر ذو العشر سنوات من منزله في قضاء الشامية الذي يفصله عن مركز محافظة الديوانية، في المنطقة الوسطى من العراق، أكثر من 20 كيلو متر، سالكاً طرقاً ترابية في عربة تقلهم مع عدة الصيد والقارب وبعض المواد الغذائية التي يحتاجونها في فترة بقائهم في الصيد والتي تستغرق عدة أيام.
يقول لـ”963+”: “المهمة ليست بهذه السهولة ولا يمكن لنا إتمام الصيد والحصول على الكمية المناسبة التي تغطي مصاريفنا خلال يوم أو يومين”.
ويضيف: “السنوات الأخيرة سببت لنا متاعب إضافية وجعلتنا نشعر بخيبة الأمل نتيجة ما لحق بهذا الهور من جفاف وارتفاع نسبة الملوحة، وهو ما أفقده قيمته المادية بالنسبة إلينا كصيادين، لأننا لم نعد نتمكن من صيد الأسماك التي تعتبر جيدة ومعروفة عن العراقيين ومنها سمك، البني، والكطان الشهير الذي يتميز بالثمن المرتفع لما يملكه من طعم مميز وقيمة غذائية كبيرة”.
جاءت التغييرات المناخية والجفاف والسياسات المائية، كلها مجتمعة لتفترس هذا المسطح المائي الكبير والذي يصل عمقه إلى 45 م، ويستغل مساحة 120 ألف دونم وطول 50 كم وعرض 20 كم، وهو يقع بين قضاء عفك غرب الديوانية ومحافظة واسط من جهة الشرق ويتغذى من المصب العام بين نهري دجلة والفرات.
وبالعودة إلى سياسة الدول المتشاطئة مع العراق، فهي ضمن الأسباب التي أثّرث بشكل كبير وملموس على هذا الهور الذي كان من المرتقب إعلانه كمحمية طبيعية، لكن ذلك تأخر أيضاً نتيجة خلافات سياسية خاصة أن تركيا تسببت بحرمان بغداد من حصتها المائية
البرلمان.. المياه ملف سيادي وسياسي
تقول عضو لجنة الزراعة والأهوار في البرلمان العراقي، النائبة زوزان كوجر خلال حديثها لـ”963+” إن، إن “ملف المياه ملف سيادي وسياسي ودبلوماسي وفني، والعراق مرّ خلال الفترات السابقة بأزمة حقيقية وهي أزمة الجفاف والتصحر وهو ما تسبب بمعاناة كثير من القطاعات نتيجة انحسار المياه، فضلاً عن التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة والاحتباس الحراري وانحسار الأمطار التي تعد مشكلة عالمية ولا تختص ببلد دون آخر”.
وتضيف النائبة عن كتلة حزب “الديموقراطي الكردستاني” في البرلمان العراقي: “ما يعنينا في العراق هو سياسية دول المنبع وقلة الواردات المائية في نهري دجلة والفرات، حيث أن الموقف المائي التركي لم يتغير للوصول إلى اتفاق يضمن وصول المياه وحصول العراق على حصته المائية بشكل عادل”، على حدّ تعبّيرها.
ويحتاج العراق من المياه إلى 70 مليار متر مكعب في الثانية، “والواردات يجب أن لا تقل عن 500 متر مكعب بالثانية في نهري دجلة والفرات، ويجب التحذير في ذات الوقت من الجفاف الذي سيحل على هذين النهرين إذا لم تحل هذه المشكلة لغاية العام 2040 بشكل جدّي وجذري من خلال اتفاق مع أنقرة”، وفق كوجر.
وأوضحت عضو لجنة الزراعة والأهوار، أن “المتأثر الأكبر بهذه الأزمة هو القطاع الزراعي مروراً بالقطاع الصناعي والثروة الحيوانية وصولاً إلى الوضع البيئي، والتراجع المستمر للإيرادات المائية -التي وصلت إلى 50%- يهدد الأمن الاجتماعي والغذائي والاقتصادي للمحافظات الجنوبية، ليصل إلى الأهوار التي وضعت على لائحة التراث العالمي بسبب نزوح السكان لقلة المياه وتلوثها وتدهور الثروة الزراعية والسمكية والحيوانية التي يعتاش عليها الأهالي هناك”.
وحول إجراءات السلطات لتخطي هذه المشكلة، كشفت كوجر عن “حملات حكومية” لرفع التجاوزات عن المياه وتوزيعها بشكل عادل بين المناطق الزراعية. وفي حين أن هذه السنة كانت “رطبة” نتيجة هطول الأمطار والثلوج في المناطق الشمالية خاصة من نهر الهيزن والزاب الأعلى والخابور لتصل الإمدادات المائية إلى 800 متر مكعب بالثانية، وهو ما يسهم بزيادة التخزين المائي إلى 5 أو 10 مليار متر مكعب حيث من الممكن “الانتفاع منه لرفد المحافظات الجنوبية خلال فصل الصيف المقبل” على حدّ قولها.
من جهته، أشار المهندس حيدر الناشي، المسؤول في دائرة بيئة محافظة الديوانية، التي يقع ضمن حدودها هور الدلمج، في حديثه لـ”963+” إلى أن “التغير المناخي أصبح واقعاً في البلاد، إذ يعد العراق من أكثر الدول هشاشة وأشدها تأثراً به، ما ألقى بظلاله على البيئة المحلية التي فقدت أنواعاً مهمة من الأسماك وأشهرها سمك البنّي ذو القيمة الغذائية الكبيرة والسعر المرتفع، كما أن عشرات الأنواع من الطيور المهاجرة تعتبر الدلمج محطة استراحة أساسية خلال رحلتها إلى بلدان أخرى، إلا أنها غيرت مساراتها بسبب اختفاء المستنقعات المائية بشكل تام، الأمر الذي يشكل خسارة للتنوع البيولوجي في هذه المنطقة، ويبيّن تبدّل وضع البيئة العراقية”.
ولفت الناشي إلى أن “الدلمج دخل ضمن برنامج المحميات الوطنية بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة والاتحاد العالمي لصون الطبيعة وبتمويل من مرفق البيئة العالمي، وهذا يمنح المنطقة أهمية كبيرة باعتباره سيوفر مساحة للحفاظ على الأنواع الحياتية والتنوع البيولوجي، وخصوصاً تلك الداخلة في القائمة الحمراء مثل طائر النحام، والبجع، واللقلق، والبط، وأنواع أخرى تصل إلى قرابة المئة وخمسون نوعاً، وهذه تحتاج إلى الدخول بشبكة المحميات للحفاظ عليها من الانقراض، لكن هذا الإجراء لم يتم إعلانه بشكل رسمي كمحمية طبيعية لغاية اليوم”.
مصالح خاصة
يرى الخبير بالشأن العراقي علي عبد الزهرة، أن “الدول لا تنظر إلى مصالح الآخرين، بل ترى مصلحتها أولاً”، معتبراً ذلك “حقاً طبيعياً”، مضيفاً: “لكن في بعض الأحيان تكون هناك مبادلة بالمصالح، وهو المبدأ الذي تسير عليه تركيا بشأن ملف المياه تجاه العراق”.
ويضيف لـ “963+” أن “ما يجعل العراق متضرراً، هو غياب السياسة العراقية الحقيقية التي يجب أن تضع هذا الملف في أولويات الأمن القومي العراقي، خاصة إذا ما عرفنا بأن تركيا سبق لها وأن أجّلت ملئ سدودها، سيما سد اليسو، أكثر من مرة، لكن انتهت مدّة التأجيل دون أن يتخذ العراق أي إجراء في مفاوضاته”.
ملف اقتصادي لدى بغداد وسياسي في أنقرة
واعتبر عبد الزهرة أن “المفاوض العراقي يجلس إلى طاولة المباحثات مع الجانب التركي، بلا مشروع وبلا مطالبات”، مشدداً على أن “الحل يكمن في الداخل العراقي الذي يحتاج إلى أن يبني سدوداً في مدنه كي يضمن الحفاظ على المياه من التسرب إلى شط العرب، ومن ثم الخليج العربي من دون فائدة حقيقية داخل العراق، وهذا المطلب الذي سبق وأن كرره الجانب التركي، بالإضافة إلى استخدام التقنيات الحديثة لمنع هدر المياه، سيما في قطاع الزراعة.
كما عرج على غياب “الإرادة السياسية” في هذا الملف لدى الجانب العراقي، في الوقت الذي ربطت فيه أنقرة بين هذا الملف ومسألة حزب “العمال الكردستاني” وتواجد قواته في البلاد. مضيفاً أن “لدى العراق ورقة التبادل التجاري مع تركيا، وهو ملف اقتصادي يمكن أن تستفيد منه بغداد بالتأكيد، لكن النتيجة تعتمد بشكل مباشر على وجود إرادة سياسية في بغداد”.
وحول ما إذا كان هناك أوجه شبه بين القضية العراقية ومثيلتها عند سد النهضة، أوضح عبد الزهرة أنها تتشابه بالتوصيف القانوني، الذي نظمته اتفاقيات الدول المتشاطئة والعلاقة ما بين دول المنبع والمصب، “لكن لكل حالة أدواتها المختلفة، لأن لكل دولة أوراقها وظروفها السياسية الداخلية والخارجية، فضلاً عن التدخلات الإقليمية في هذه الملفات”.
بداية الأزمة
وأصبح نهرا دجلة والفرات، اللذين ينبعان من تركيا ويتدفقان باتجاه مجرى النهر عبر حدود سوريا والعراق، قضية رئيسية تؤثر على العلاقات الدبلوماسية بين الدول الثلاث، منذ سنوات. كما تتبادل هذه الدول الاتهامات منذ عقود بشأن محتوى اتفاقياتٍ سابقة بينهما حول كميات المياه التي تتدفق من تركيا إلى سوريا والعراق المجاور.
وتصاعد التوتر بين الدول الثلاث بسبب بناء السدود وشبكات الري الكبيرة من قبل تركيا، مما أدى إلى انقطاع المياه في البلدين المجاورين، لكن هذه المشكلة تفاقمت أكثر في العراق مع لجوء إيران لسياسات مائية مماثلة لتلك التي تتخذها تركيا.
وفي عام 1987، توصلت سوريا وتركيا إلى اتفاق حول تقاسم المياه. وبموجبه وافقت أنقرة على الحفاظ على الحد الأدنى من تدفق المياه والذي يبلغ 500 متر مكعب في الثانية إلى سوريا، لكن الجانب التركي لم يعد يلتزم بهذه الاتفاقية منذ اندلاع الحرب السورية.
كما أبرم العراق وسوريا اتفاقية تقاسم المياه في عام 1990، دون وجود أي اتفاقٍ معلن حتى الآن بين بغداد وأنقرة.