في حين ما زال البعض منشغلاً بين “سوريا” بألف ممدودة أو “سورية” بتاءٍ مربوطة، يبدو أن هذه البلاد ستكون آخر موضع للقوات الأميركية، مقاتلين أو مستشارين، في المنطقة بأسرها، بعد العراق. وفي حين يرتبط الوجود الأميركي في الأخيرة بمصير العلاقات مع إيران، فإنّه في شمال شرقي سوريا مرتبط بإمكانية قيام سلام بين إسرائيل وسوريا، وبمستقبل العلاقات مع تركيا، ثاني أكبر دولة في حلف شمال الأطلسي.
إنها بلاد “التراب والدم” حسب وصف الرئيس السابق، والمقبل على الأرجح، لأميركا، دونالد ترامب، الذي ظفر هذا الأسبوع بنصرٍ مؤزّر فيما يُعرف بـ”الثلاثاء الكبير”. ترامب لم يسحق فقط نيكي هيلي، ممثلة الدولة العميقة و”مستنقع” واشنطن كما يرى ترامب ومؤيدوه، وإنما أكد أنه تجسيد لأيقونة الحزب الجمهوري الراحل رونالد ريغان محطم جدار برلين ومفكك الاتحاد السوفياتي ومن بعده حلف وارسو. ترامب معنّي بإرث لا يخشى فيه من عواقب التفاوض والاختراق. بمعنى أنه سيعمل، وقد بدأ بذلك بالفعل، على تغيير اللعبة كلها، وليس قواعد اللعبة أو الاشتباك. من أبرم صفقة مع حركة “طالبان” عبر الدوحة، لن يكون عصياً عليه تكرار الموقف نفسه مع حركة “حماس” و”حزب الله” و”الحوثي” وجميع وكلاء طهران. فلا فرق من وجهة نظر ترامب ومن يمثلهم في مؤسسات الدولة والمجتمع الأميركي بين ملالي كابول وملالي طهران.
والأهم من ذلك هو تأكيد ترامب المتكرر ورفضه ليس فقط لفكرة إسقاط الأنظمة وتغييرها، إنما لبناء الدول أو نشر الديموقراطية. حتى في مسألة مكافحة الإرهاب، ورغم خلو سيرته من أي خلفية عسكرية وأمنية، وحتى سياسية، اقتصر تدخله على الضربات الموجعة لتحييد الخطر الداهم والقضاء عليه وفق المتفق، وهذا ما فعله بالتحديد في عمليتي تصفية أبو بكر البغدادي وقاسم سليماني. إذ قضى على عصابة الأول وخلافته المزعومة، ولم يبالِ بملاحقة جميع قيادات الثاني في الحرس الثوري الإيراني أو “فيلق القدس”، بل اكتفى بضربة واحدة حاسمة لها ما بعدها، إن لزم الأمر. بالتالي، بوجود حاملات الطائرات والدرونز والقوة السيبرانية، تراجعت الحاجة إلى وجود قوات على الأرض (بووتس أون ذا غراوند)، وهو الكابوس الذي عانت منه جميع الإدارات الأميركية باستثناء واحدة فقط، هي إدارة ترامب.
وعليه، فإن أول ما يحرص ترامب على تحقيقه في ولايته الثانية هو عقد صفقات متعددة على مسارات متباينة، وهذا ليس ما كان يسعى سلفه أوباما أو بايدن لتحقيقه فيما سمي بالـ”ميغا ديل” مع طهران. ترامب معني بالـ”ماغا”، شعاره الانتخابي في الولايتين، إذ يريد جعل أميركا “عظيمة مجدداً”، وبالتالي التركيز على الداخل الأميركي في كل شيء، حتى في مقاربة ملفات مزمنة كما في الشرق الأوسط، وعنوانه دائماً النفط وإسرائيل. الشق الأول حققه ترامب في ولايته الأولى من خلال تحقيق الاكتفاء الذاتي وتحويل أميركا في عهده من دولة مستوردة إلى مصدّرة للنفط والغاز، خاصة لأوروبا. أما إسرائيل فلم تعد الحليف الوحيد لها في الشرق الأوسط، مع تنامي مكانة دول عربية وازنة دولياً على الصعيديّن السياسي والاقتصادي كمصر والسعودية والإمارات والأردن.
في المقابل كذلك، فإن بايدن أو من يخلفه في الحزب الديموقراطي (وهو أمر مستبعد بعد فوزه في الثلاثاء الكبير، ما لم يتسع الفارق بينه وبين ترامب على نحو محرج) قد ينحون منحى مشابهاً. فرغم معاناة بايدن من صورة ضعيفة إعلامياً بسبب قدراته الإدراكية والحركية، إلا أنه خبير مخضرم ومحنّك لا يستهان بقدراته في الاختراق أبداً. وفي حال تمكن من إنهاء حرب أكتوبر في غزة بأقل الخسائر، وتعزيزها باتفاق ترسيم الحدود البرية بين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من جهة إسرائيل والأمين العام لـ “حزب الله” حسن نصر الله من جهة لبنان، فإنه قريب جداً من إشهار صفقة كبرى مع طهران تكون هي الضامن لإنهاء الوجود الأميركي في الشرق الأوسط بصورة أقل كارثية من انسحابه من أفغانستان. هكذا يكون الملالي في كابول وطهران قد صنعوا “سلاماً” مع “الشيطان الأكبر”، ولا يكون الموت لأحد بعد الآن، على الأقل ميدانياً، لا افتراضياً!