خاص ـ رامي فاضل/ حلب
تُعد القدود الحلبية من أهم الفنون الموسيقية العربية، وكنزاً غنياً من الألحان والقصائد التي تُجسّد عمق التراث الصوفي في مدينة حلب. نشأت هذه القدود في أحضان الطرق الصوفية، وارتبطت بممارساتهم الروحية، لتُصبح تعبيراً فريداً عن مشاعرهم وأفكارهم حول العشق الإلهي والوصول إلى الحقيقة.
ارتبطت القدود الحلبية بالتراث الصوفي منذ بدايتها، فقد نشأت في أحضان الطرق (القادرية، النقشبندية والمولوية) في المدينة. وكان شيوخ الصوفية يمارسون هذه القدود في مجالسهم الخاصة، كجزء من طقوسهم الروحية، للتعبير عن مشاعرهم الدينية والتواصل مع الله. فيما كان موقع مدينة حلب الجغرافي الواقع بين عواصم التصوف في العالم الإسلامي، ميزة جعلت منها مصبّاً للتصوف الفارسي والتركي وصولاً إلى التصوف الأندلسي. وقد تثاقف أيضاً أهل المدينة مع بعضهم البعض رغم اختلاف طوائفهم وأعراقهم ليظهر هذا التفاعل الحضاري والروحي في الموسيقى وفي مضامين الشعر الروحي لدى المسلمين والمسيحيين من أهل حلب على حدّ سواء.
وتتميّز موسيقى القدود الحلبية ببساطتها ورقتها، مع استخدام آلات موسيقية محددة مثل العود والكمان والقانون والناي الذي استعمله للمرة الأولى جلال الدين الرومي في حلقات الِذكر. كما تُستخدم الإيقاعات الصوفية المميزة، مثل إيقاع “الربع” و”المثنى”.
وامتازت أيضاً بما يمكن تسميته “النمط الدائري” الذي يرتكز على التكرار والإضافة، إذ تُعاد الجملة الموسيقية ذاتها لمرات عديدة مع إضافة صغيرة في كلّ إعادة ما يجعل المتصوّف يدخل في حالة من النشوة الروحية، التي عبَّر عنها أهل الطرب لاحقاً بإسم “السلطنة”.
وتتكوّن القدود الحلبية من مقام موسيقي عربي واحد، مع إمكانية الانتقال إلى مقامات أخرى خلال الأغنية. كما وتعتمد على إيقاعات عربية تقليدية، مثل إيقاع “الدارج” و”الواحد وسبعين”، وتتضمن زخارف موسيقية مميزة، مثل “التعشير” و”التغريد”.
وتتناول كلمات القدود الحلبية موضوعات صوفية، مثل الحب الإلهي، والوصول إلى الحقيقة، والزهد في الدنيا والغزل والوصف والغرام والشوق. وقد نُسِبت كلمات العديد من القدود إلى جلال الدين الرومي وابن عربي وسواهم من المتصوفة. هذا دون أن ننسى الشعراء الذين تأثروا بالصوفية كإبراهيم بن أدهم الحلبي، محمد بن عبد القادر بن أبي بكر الحلبي، يحيى بن محمد بن علي الحلبي، عبد الغني النابلسي، فؤاد سليمان والكثير غيرهم.
وتُكتب كلمات القدود الحلبية باللغة العربية الفصحى، مع بعض الكلمات العامية، كما تعتمد على بحور شعرية عربية تقليدية، مثل بحر “الكامل” و “البسيط”.
تُؤدّى القدود الحلبية من قبل منشدين محترفين، يملكون مهارات صوتية عالية، ويُجيدون التعبير عن مشاعرهم وأحاسيسهم من خلال الغناء، كما ويحرصون على تناغم الفرقة كلها ضمن المناخ الروحي الذي يقدمونه. فالقدود ليست مجرد فن غنائي بل هي أيضاً طقوس روحية تكسر الرتابة اليومية للتديُّن، وليس من الصدفة أن أبرز من غنوا القدود هم في الأصل رجال دين كالشيخ الراحل صبري مدلل مؤذن الجامع الأموي في حلب، والراحل الكبير صباح فخري الذي يُعد أشهر من غنى القدود في عصرنا الحديث.
ولعبت القدود الحلبية دوراً هاماً في بناء الثقافة في مدينة حلب، فكانت بمثابة “الأوبرا الحلبية” إذ كانت المادة الأولى للمسرح الحلبي في القرن التاسع عشر مع الفنان أبو خليل القبّاني والفنان سليمان الحلبي.
وتميَّز أداء القدود بالارتجال والتعبير، مع إمكانية إضافة زخارف صوتية مميّزة، وهذه بعض أمثلة عنها: “قدّك المياس” من أشهر القدود الحلبية وأكثرها انتشاراً، وتُنسب إلى الشيخ عمر البطش. و”يا زينب” من أشهر القدود الحلبية كذلك، وتُنسب إلى الشيخ علي الدرويش. إضافة إلى “يا أهل الهوى” وهي من القدود الحلبية التي تُعبّر عن مشاعر الحب الإلهي اللامتناهي، و “مولاي إني ببابك” التي تعبّر عن التوكل على الله.
ولا تزال القدود الحلبية تُمارس حتى اليوم، وتُقام لها العديد من الحفلات والمهرجانات في مختلف أنحاء العالم. كما يُؤدّى بعض القدود من قبل فنانين معاصرين، مع إدخال بعض التعديلات على الموسيقى والكلمات. تبقى، في النهاية، فناً سورياً عظيماً، وكنزاً غنياً من التراث الصوفي الخاص بمدينة حلب، وتُجسّد عمق هذا التراث وجمالياته. تُعبّر هذه القدود عن مشاعر الصوفية وأفكارهم حول العشق الإلهي والوصول إلى الحقيقة، وتُقدّم نموذجاً فريداً للموسيقى العربية الروحية، التي تخطّت حدود حلب وحدود سوريا وحتى حدود العالم العربي.