القاهرة
دفع الصراع في غزة والذي انطلق منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي، بعد الهجمات المباغتة التي شنتها “حركة حماس” وفصائل مسلحة بدعم إيراني ضد إسرائيل، نحو تفعيل الجبهات الوظيفية في الشرق الأوسط والتي تستند إليها إيران ضمن ما يعرف بـ”وحدة الساحات” عبر ميليشياتها المسلحة التي تطوق الإقليم في لبنان والعراق وسوريا واليمن، بينما عملت من خلال ذلك على استهداف المصالح الإسرائيلية والقواعد الأميركية عبر تلك القوى الولائية.
بالأساس تهدف طهران نحو تسخين تلك الساحات بمنسوب دقيق، يتحرك نحو توتير الشرق الأوسط عبر تلك المجموعات المسلحة والمؤدلجة، لجهة تحقيق أهداف متباينة منها تخفيف الضغط عن وكيلها الأهم، “حزب الله” في لبنان، باعتباره متاخماً للصراع في غزة واستغلال حيز الجغرافيا السياسية للحوثيين في اليمن لتهديد أمن الملاحة الدولية وعسكرة البحر الأحمر وسلاسل التجارة العالمية، وكذا رفع درجة الضغط على الحضور العسكري الأميركي في الشرق الأوسط من خلال تعدد استهداف ذلك الحضور في العراق وسوريا.
إلى ذلك جاءت الضربة التي وجهتها كتائب “حزب الله” في العراق لقاعدة أميركية في المثلث الحدودي بين الأردن والعراق وسوريا، خلال نهاية شهر كانون الثاني/ يناير من العام الجاري، خارج قواعد الاشتباك بحسب تقدير عدد من الخبراء، وقد نجم عن ذلك مقتل ثلاثة جنود أميركيين وإصابة آخرين، مما دفع واشنطن لتوجيه ضربة ثلاثية مطلع شهر شباط/ فبراير من العام الجاري، ضد ميليشيات تخضع للحرس الثوري الإيراني في اليمن والعراق وسوريا.
وأفادت التصريحات الرسمية الأميركية، والتي خرجت من البنتاغون والرئيس الأميركي جو بايدن، بكون الضربات الأميركية ستمتد لأوقات متصلة وأهداف متعددة، بغية شل وتقويض قدرات الحرس الثوري والميليشيات التابعة لها، رغم حرص واشنطن على عدم المواجهة المباشرة مع طهران في الوقت الحالي. ثمة مؤشرات تفيد أن الوضع الحالي الذي تشهده جغرافيا الشرق الأوسط يستقر نحو حدود وأُطر الحرب بالوكالة في ما بين إيران وإسرائيل، ويبعث بتوترات وقلق حول الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط من جهة أخرى.
بيد أن هناك جملة من التقديرات تشي بارتفاع وتيرة الصراع، في ما بين تل أبيب وطهران باعتبار أن إسرائيل تنظر لممارسات طهران في المنطقة بكونها المحرك الرئيس لكل ما يحدث من توترات، وكذا دورها الفاعل والمخطط لضربة السابع من تشرين والتي تعرف باسم “طوفان الأقصى”.
في هذا السياق تحدث أكثر من مسؤول في الحكومة الإسرائيلية عن حتمية الرد على إيران بغية تحقيق الردع المؤثر. إذ أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أن إسرائيل لا ترى مانعاً من توجيه ضربات مباشرة إلى إيران في إطار هذه المواجهة. ونحو ذلك وعلى المستوى الميداني تم توجيه هجمات وضربات إسرائيلية عديدة ضد إيران ووكلائها الإقليميين، كان من بينها اغتيال قائد فيلق القدس في سوريا رضي الموسوي، واغتيال نائب قائد فيلق القدس للشؤون الأمنية حجت الله أوميدوار. فضلاً عن العقوبات الأميركية على الجانب الاقتصادي وجاء آخرها ما طال مصرف الهدى في العراق على خلفية تبعيته المباشرة للحرس الثوري وتورطه في عمليات تهريب وغسيل الأموال وتمويل الميليشيات المسلحة. لكن كافة التصريحات الرسمية الأميركية تذهب نحو الابتعاد عن المواجهة المباشرة مع طهران في التوقيت الحالي.
يقيناً، يمثل التدخل الإيراني على تخوم وفي عمق الأزمات العربية المعاصرة محاولة قصوى لفرض أمر واقع وسياسة ميليشياوية تستهدف مزايحة السيادة القانونية لتلك البلاد وترهنها لحساب أجندتها الطائفية ومصالحها الجيواستراتيجية البراغماتية، بما يجعلها تباشر تغذية الجماعات الميليشياوية التابعة لها في تلك الدول، ما أدى لتعظيم النفوذ الإيراني ودعم سياسات طهران على حساب الدول بالمنطقة. کما أنه أربك تلك الأزمات وعقد مسارات الحلول فيها، وانسداد في الأفق السياسي، بدلاً من تسويتها، خاصة وأن الدول المركزية في المنطقة تعاني من تبعات وتداعيات احتجاجات العام 2011، مما زاد من حدة التنافس الإقليمي في المنطقة سيما من خلال قوى إقليمية كان أبرزها أيضا التداخلات الترکية والتنافس في الساحات المفتوحة، الأمر الذي أثر سلباً على ديناميات الأمن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط.
إذاً تشهد جغرافيا الإقليم جملة من التحديات غير المسبوقة على خلفية التداعيات الرئيسية في المنطقة، والناتجة عن سياسات إيران في المنطقة والتي تهدف نحو صياغة وإعادة هيكلة منطقة الشرق الأوسط لتنفيذ المشروع الإيراني، وزيادة نفوذها ومكانتها الإقليمية حتى تتمكن من توظيف ذلك في صراعها مع الدول الكبرى في النظام الدولي.
نحو ذلك أشار مهدي عقبائي، عضو المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، إلى أن إرسال قوات الحرس الثوري إلى مناطق الصراع خاصة في العراق وقع على نطاق واسع بهدف قمع المظاهرات وتدريب ميليشيات عراقية.
ويتابع عقبائي حديثه لـ”963+” بالكشف عن التقارير التي حصلت عليها المقاومة الإيرانية من داخل قوات الحرس الثوري الإيراني قبل ثلاث سنوات والتي أفادت أن قيادة قوات الحرس أرسلت وحدات من مختلف محافظات إيران لتدريب وتشكيل مجموعات ميليشياوية في العراق ومناطق أخرى في سوريا.
وأردف قائلاً: “وأيضا تم إرسال جزء من تلك الوحدات التابعة لكل محافظة بشكل رسمي تحت غطاء ‘توفير الحماية والأمن، وداخل الوحدات النظامية. واستخدمت هذه الوحدات في المناطق الحساسة ومداخل مدينتي كربلاء والنجف خاصة خلال أشهر عاشوراء أو الأربعين”.
كما تم إرسال جزء كبير من “عناصر استخباراتهم” من مختلف محافظات إيران إلى العراق، للقيام بمهمة خاصة سيتم تنظيمها في المحافظات العراقية. وفي الواقع كانت هذه القوات مسؤولة عن تشكيل وتنظيم قوات الميليشيات، وخاصة كتائب حزب الله العراقي.
قبل حوالي ثلاث سنوات، والحديث للمصدر ذاته، نشرت قوات الحرس الثوري الإيراني بعض وحداتها خاصة من المحافظات الحدودية في المدن العراقية الكبرى مثل بغداد، وكانت مدة مهمة هؤلاء في العراق ثلاث سنوات وكانت كوادر هذه الوحدات بمساعدة قوات كتائب حزب الله تحاول فرض خطة سيطرة على الشباب العراقي وقمعهم وفي هذه الفترة تأقلموا مع البيئة الاجتماعية للعراق.
ويحدد عضو المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، المهمة الأساسية لهذه العناصر المتمركزة في العراق، وذلك بالعمل على نقل تجربة قوات الحرس الثوري الإيراني إلى قوات الحشد الشعبي، وتحديداً إلى كتائب حزب الله العراقي في مجال قمع الاحتجاجات وتنفيذ العمليات المطلوبة بحسب أهداف الحرس الثوري.
وتشير التقارير إلى أن قاسم سليماني ذهب إلى بغداد في الأيام الأولى للانتفاضة العراقية والتقى بقادة كتائب حزب الله وعناصر الميليشيات العراقية الموالية لقوات فيلق الأخوندي وأبلغهم بأوامره بشأن خطتهم. وحينها إثر صدور أوامر قاسم سليماني كان أبو مهدي المهندس قائد كتائب “حزب الله” يبرر ممارسات قادة الميليشيات وهي تباشر تنفيذ الخطة القمعية للتعامل مع احتجاجات الشعب واستطاعوا قمعها.
ونفذت مجموعات عراقية مختلفة موالية لقوات الحرس الثوري الإيراني، مثل منظمة بدر وكتائب حزب الله وجماعة النجباء وحركة عصائب أهل الحق وكتائب عاشوراء ومجموعات أخرى تابعة للنظام الإيراني، مهاماً محددة في الميدان للسيطرة على الاحتجاجات وخلق أجواء خانقة وكقوات عسكرية مستقلة يقومون بالمهام الموكلة إليهم من قبل الحرس الثوري الإيراني.
يختتم مهدي عقبائي عضو المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية تصريحه لـ”963+” بقوله إن “ما رأيناه تحت مسمى أنشطة وهجمات قوات الميليشيات العراقية ضد مراكز وثكنات القوات الأميركية هو في الواقع تنفيذ لأوامر ورغبات نظام ولاية الفقيه لصرف الأنظار عما يحدث في إيران والزيادة غير المسبوقة في عمليات الإعدام والقمع داخل البلاد”.
من جانبه يشير الأكاديمي اللبناني، نزيه خياط، إلى تأزم الوضع في الشرق الأوسط إثر عملية حماس والتي سمتها “طوفان الأقصى”، وأدت إلى ضرب الثقة في مؤسسة الحكم الإسرائيلي، وأيضاً بعد هرولة القيادة الإيرانية إلى التبرؤ من عملية “المقاومة الفلسطينية” في “غلاف غزة” الذي هو في جوهره وحقيقته تقدم “إيران بصك براءة إلى كل من الولايات المتحدة وإسرائيل”.
يتابع الأكاديمي اللبناني نزيه خياط حديثه لـ”963+”، أن القيادة الإيرانية استدركت انكشاف حقيقة موقفها من مسألة عدم انغماسها بالحرب الدائرة في غزة عملاً بشعار “وحدة الساحات” و”الصلاة في القدس” الذي هندسته وأوكلت إلى “حزب الله” الترويج له، بالرغم من دعم إيران لحركة حماس عسكرياً ومالياً وتدريباً. بيد أن العلاقة بينهما لم ترتق إلى التحالف العضوي أسوة بعلاقة حزب الله في لبنان بإيران وذلك لأسباب ايديولوجية ومذهبية معروفة.
ويلفت خياط إلى أن أحداث غزة والضفة الغربية دارت في لحظة تاريخية تعاني فيها إيران أزمات داخلية حادة على المستوى المجتمعي، خاصة بعد نمو الوعي القومي والدعوة إلى بلورة الشخصية الوطنية للعرقيات والكيانات المتعددة التي يتشكل منها النسيج الاجتماعي الإيراني المتنوع ومطالبتها بالحرية، وأخذ حقوقها من التنمية ومن عائدات الموارد المختزنة في جغرافية هذه المكونات.
بالمقابل كان لمشاركة إيران في الحرب الأوكرانية إلى جانب روسيا من خلال تقديمها آلاف المسيرات الانتحارية الأثر السلبي على علاقتها بالغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة، وبذلك اعتبر هذا الدعم الإيراني تجاوزاً للخطوط الحمراء المرسومة من قبل الولايات المتحدة الأمر الذي عطل مفاوضات البرنامج النووي الإيراني.
أيضا كان للضربات الإسرائيلية ضد منشآت استراتيجية داخل إيران وضرب أذرع إيران الميليشياوية في كل من العراق وسوريا دون أي رد منها أثر سلبي على معنويات ما يعرف بقوى الممانعة، خاصة بعد اغتيال الولايات المتحدة لقاسم سليماني، ناهيك عن اغتيال العشرات من كبار قادة الحرس الثوري الإيراني، مؤخراً، والعديد من العلماء الإيرانيين القيمين على مشروعها النووي.
المأزق الكبير الذي جعل إيران تبادر إلى القيام بعملياتها العسكرية في كل من العراق وباكستان، تمثل في انكشاف موقفها اللفظي تجاه القضية الفلسطينية عند ساعة الحقيقة ميدانياً في غزة والضفة الغربية وأن الوعد بالصلاة في القدس ذهب “أدراج الرياح” بعد أن اعتمدت القيادة الإيرانية خطاباً تبريراً محباً للسلام عنوانه ترك حرية القرار لنصرة غزة لأذرعها في لبنان واليمن والعراق.
تتحرك إيران بتقديرات متنوعة نحو افتعال أزمة إقليمية تضبط أهدافها حيز التنفيذ وتساعدها في طاولة المفاوضات مع الجانب الأميركي خاصة مع عام الانتخابات الرئاسية ومع استغلال، قُم توظيف القضية الفلسطينية كورقة رابحة واستثمار ذلك بشكل عام في سياق أهدافها إقليمياً ودولياً.