عندما نقول مفتاح، ثمّة بالضرورة باب يتوسطه قفل يسمح بإدخال المفتاح به وفتحه، بعملية ميكانيكية سهلة ومدروسة. هذا في العادي ولكن ما حصل في سوريا خلال السنوات الـ13 الماضية مختلف تماماً، فما الذي حدث؟ ولماذا وصلت الأحوال إلى هذا الاستعصاء على كافة الأصعدة؟
في الحدث السوري، الذي بدأت فيه الأحداث تتدحرج كما كرة الثلج منذ عام 2011، واجه السوريون جُملة من الأزمات والمعضلات التي بدأت بسيطة وكبرت مع الوقت، إلى أن أصبحت كل أزمة منها بحجم الوطن، والسبب الرئيسي في ذلك من وجهة نظري، أنّ كل الأطراف التي انخرطت في الأزمة السورية اكتفت بالنظر إلى تلك الأزمات من ثقب الباب ومنعت أي جهد يبذل، بل وقمعت كل رأيّ يجد أن الحلّ يكمن بفتح الباب على مصراعيه وبدء عملية البحث عن الحلول والتوقّف عن النظر إلى كل ما يحصل من ثقب الباب فقط.
بالعودة إلى التسلسل الزمنيّ لما حدث في سوريا، نجد أن كل طرفٍ من أطراف القضية، وما أكثرهم، لجأ إلى أسهل الطرق لحلّ أزمة معقدة، تراكمت معطيات انفجارها على مدى عقود طويلة بغطاء داخلي وإقليمي ودولي. وعندما دقّت ساعة الحقيقة ظهر جلياً هذا التشابك وتعقيداته وراح كل طرف ينظر إلى الانفجار ونيرانه من ثقب ضيّق لا يسمح له إلاّ برؤية مصالحه وما يريد رؤيته فقط، ضارباً عرض الحائط أي شيء آخر، الأمر الذي حوّل البلاد والعباد إلى ساحة صراع “كسر عظم” بين طيف واسع من الأطراف المتحاربة دون أدنى اعتبار لمصالح سوريا وأهلها.
الانفجار السوري كان له آلاف المبررات الداخلية، خاصة لجهة أنّ السلطة السورية تكلّست تماماً ولم تأخذ بعين الاعتبار التحولات السياسية التي جرت في المنطقة، وظلّت تحكم بأسلوب ومعطيات الحرب الباردة، متكئة في ذلك على ما تعتبره قضايا “قومية عادلة”، ومعتبرة أنّ زمن الشعارات وانضمامها إلى محور تصفه بـ”الممانع” سيعفيها من دفع فاتورة التغيير الذي كان يسير بسرعة البرق من حولها. وكانت السلطة السورية حينها مطمئنة إلى أن الشعب لا يزال يعطيها كامل التفويض لتفعل ما تشاء، وهذا ما جعلها تنظر إلى المسألة برمتها من “ثقب الباب” لترى ما تريد رؤيته وما يخدم مصالحها، بدلاً من فتح الباب على مصراعيه عبر عملية وطنية شاملة تكون فيها المصلحة الوطنية هي الهدف الأسمى. ولكن مصلحتها هنا كانت بفعل كل شيء يُبقيها في الحكم ويحمي مصالح رموزها وحلفائها أيضاً.
وهناك أيضاً الولايات المتحدة الأميركية، والتي كان يعول عليها لعب دور القوة العظمى بواقعية وحكمة، هي الأخرى نظرت إلى الأزمة السورية من ثقب الباب الذي يسمح لها برؤية ما تريد رؤيته فقط، وبدلاً من أن تكون جزءاً من الحل، راحت تنسج كل يوم عقدة جديدة، وعينها دائماً على صراعها مع الصين وروسيا. وكذلك فعلت كل من الصين وروسيا، اللتان لم تريا في المسألة السورية أكثر من ساحة لتصفية الحسابات والاستعداد للمواجهة الكبرى مع الولايات المتحدة.
إيران التي تتنافس مع إسرائيل وتركيا على النفوذ في المنطقة، هي الأخرى نظرت للقضية برمتها من ثقب مصالحها العقائدية والتوسعية، وفي النهاية أطبقت فكيّها على سوريا، وجعلت منها منصة لتصفية حساباتها النووية والعقائدية وللمساومة على الاعتراف بنفوذها ودورها في منطقة دارت فيها عجلة التغيير ومن المستحيل إيقافها.
وكما فعلت إيران، فعلت تركيا أيضاً، ونظرت إلى الأحداث من ثقب باب أطماعها التوسعية وأحلام سلطانها الجديد الذي تنّكب ظهر حلفائه “الإخوان المسلمين” مما زاد الطين بلّة وزاد القضية تعقيداً.
وعلى نفس النهج سارت الدول العربية، مع ضعف إمكاناتها الواقعية ووفرة مواردها المالية، ليفضي تدخلها إلى تشظي الرؤية وتشرذم القوى وظهور تنظيمات راديكالية لا حصر لها، بات اليوم وضع حدّ لتغلغلها مطلباً عالمياً قد يكون صعب المنال.
وبعد 13 عاماً على الانزلاق السوري نحو الهاوية، لا يزال الجميع يقارب هذه القضية، التي شارك فيها الجميع من خلال النظر إليها من ثقب الباب، ولم يجرأ أحد على فتح هذا الباب ورؤية المشهد برمته ومعالجته، بل أزعم أن الجميع توافقوا على ضرورة تعقيد المسألة أكثر لدرجة اليأس من إيجاد حلول ومخارج لها.
أمام هذا المشهد، ما هو المطلوب من السوريين من كافة مشاربهم؟
المطلوب منهم فتح كل الأبواب فيما بينهم، والبدء بتشكيل نماذج جديدة من شأنها التأسيس، ولو بعد حين، لوطن يسهل عليهم لملمته من جديد. والمطلوب منهم أيضاً التوقف عن النظر إلى قضيتهم من ثقب الباب الضيق الذي ينظر منه “حلفائهم”. وغير ذلك هم على موعد أكيد مع عقود أخرى من الخسائر الموجعة.