خاص – بيروت
تسارعت وتيرة انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وسحبت معها بنيان القطاع العام نزولاً نحو هاوية لن يستطيع لبنان الخروج منها بسهولة.
والواضح في الأزمة اللبنانية المتعدّدة الجوانب، سياسياً، اقتصادياً، مالياً، نقدياً، اجتماعياً وتربوياً، أن ما تقوم به السلطة السياسية من محاولات للخروج من الأزمة، يستند إلى القيام بالإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد الدولي للحصول على مساعدات مالية بقيمة 3 مليار دولار.
وعلى رأس تلك الإصلاحات، إعداد موازنات عامة، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتقليص حجم القطاع العام وإصلاح قطاع الكهرباء وتشكيل الهيئة الناظمة للقطاع.
في حين أن تطبيق القانون فيما يخصّ تحصيل الضرائب ورسوم الجمارك، يُدخِل إلى الخزينة العامة ما لا يقلّ عن 6 إلى 8 مليار دولار سنوياً.
ورغم ذلك، لم تقم السلطة السياسية بتنفيذ الإصلاحات بشكل صحيح، بل بطرق ملتوية تزيد من محنة القطاع العام وتؤسّس لانفجار اجتماعي وقوده عائلات الموظّفين والمتقاعدين.
من الرواتب إلى المساعدات الاجتماعية
شهدت رواتب القطاع العام تحسّناً كبيراً بفعل إقرار سلسلة الرتب والرواتب في العام 2017، وهي تُعَدّ ثالث تعديل بعد زيادة الأجور من خلال إعطاء غلاء معيشة في العام 2012 وقبله تصحيح الأجور في العام 2008.
لكن هذا التحسُّن ترافقَ مع مؤشّرات سلبية كانت تنخر مالية الدولة إلى جانب الهدر والفساد في جميع القطاعات، وعلى رأسها قطاع الكهرباء الذي كلّف الخزينة العامة ما لا يقلّ عن 45 مليار دولار، أي نحو نصف الدين العام اللبناني قبل أزمة العام 2019.
فالتضخّم الناتج عن ضخّ نحو 1900 مليار ليرة في السوق، زاد “بما لا يقلّ عن 2 بالمئة”، وفق ما ذكره الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي جاسم عجاقة، في العام 2018، كمؤشِّر على نتائج إقرار السلسلة بعيداً من الدراسة الحقيقية لحجم الإنفاق العام وحجم النمو الاقتصادي الذي بدأ يشهد تراجعاً حينها، فضلاً عن عدم تصريح السلطة السياسية عن العدد الفعلي لموظّفي القطاع العام والذين ستشملهم زيادة الرواتب.
ووفق ما قاله وزير المالية الأسبق علي حسن خليل، فإن عدد موظّفي القطاع العام يتراوح بين 250 إلى 300 ألف موظّف، في حين يتّفق الكثير من خبراء الاقتصاد على أن عدد موظّفي ذلك القطاع يجب ألاّ يتجاوز 150 ألف موظّف.
وبعيداً من النتائج الاقتصادية لتحسين الرواتب، إلاّ أنّ موظّفي القطاع العام كانوا راضين عنها إلى حدّ كبير، ما انعكس إيجاباً على مستوى استهلاكهم. إذ كانت الوظيفة العامة تشكّل نوعاً من الأمان الاجتماعي والاقتصادي.
وعليه، على سبيل المثال لا الحصر، كانت بعض رواتب أساتذة المرحلة الثانوية في التعليم الرسمي، تصل إلى نحو 4.5 مليون ليرة شهرياً، أي 3000 دولار، وتزيد عن ذلك أحياناً. وترتفع الرواتب بحسب الفئات الوظيفية. أما المتقاعدون فكانوا يتقاضون “نحو 85 بالمئة من رواتب زملائهم في الخدمة الفعلية”، وفق ما أكّدته الأستاذة المتقاعدة من التعليم الثانوي، وعضو التيار النقابي المستقلّ، بهية بعلبكي.
وأوضحت أن راتبها الشهري “كان يساوي 3000 دولار واليوم تتقاضى نحو 220 دولار مع زيادات الرواتب التي تأخذ طابع المساعدات الاجتماعية”. علماً أن الرواتب الإضافية التي تقرّها الحكومة تأخذ مسمّى المساعدات الاجتماعية كي لا تُضافَ إلى أساس الراتب وتُحتَسَب لاحقاً في المعاشات التقاعدية للموظّفين.
وبتفصيل أدق، قالت بعلبكي، إن راتبها بالليرة أثناء مزاولتها الخدمة الفعلية “كان يساوي 3000 دولار، وأصبح بعد التقاعد يساوي 2300 دولار، في حين يساوي اليوم نحو 35 دولار، ومع الزيادات يصل إلى نحو 220 دولار. وهذه هي حصيلة 40 عاماً من الخدمة في القطاع العام”.
والراتب الحالي، بحسب بعلبكي، “لا يكفي لتغطية فاتورة الاستشفاء وحدها، بعيداً من الأكلاف والإيجارات الأخرى”. وتجزم بأن “السلطة السياسية لو أنها استعملت أموال المحسومات التقاعدية للموظفين خلال الخدمة، بالصورة الصحيحة ولم تختفِ بسبب الهدر والفساد، لأمكنها تغطية رواتب المتقاعدين اليوم بنسبة 100 بالمئة”.
سياسة فرِّق تسُد
تقرّ السلطة السياسية بحقّ موظفي ومتقاعدي القطاع العام بتحسين الرواتب. وقال رئيس الحكومة نجيب ميقاتي: “إننا ملتزمون بإعطاء كل الحقوق للجميع”، لكن في المقابل “محكومون بسقوف للإنفاق لا يمكن تجاوزها”.
وهذا التبرير لم يقنع الموظفين والمتقاعدين، سيّما العسكريين المتقاعدين الذين أقفلوا مراراً الطرق المؤدّية إلى مجلس الوزراء في محاولات لمنع انعقاد أي جلسة لا تحمل تعديلاً للرواتب يكون ضمن تصحيح حقيقي للأجور وليس زيادات إضافية تحت مسميات مختلفة.
وهو ما أكّده أحد أعضاء “الهيئة الوطنية للعسكريين المتقاعدين”، والذي فضّل عدم الكشف عن اسمه.
وأشار العسكريّ المتقاعد إلى أن “الحكومة لم تطلب لقاءً مع اللجنة المكلّفة من قِبَل الهيئة، متابعة ملف الرواتب. وبالتالي، نحن كعسكريون متقاعدون، لا يمكننا الركون إلى أن الحكومة ستصحّح رواتبنا ما لم يحصل نقاش جدّي وعلى أسس واضحة، وتستند خلاله الحكومة إلى أرقام فعلية للزيادات، والتي لا يجب أن تقلّ عن ما بين 30 إلى 40 بالمئة من حجم الرواتب التي كان معمولاً بها في العام 2019، أي أن يقبض المتقاعد اليوم بالليرة، ما يوازي 500 دولار شهرياً”.
زيادة ضغط العسكريين المتقاعدين على الحكومة بالشارع، دفعها إلى اعتماد سياسة فرِّق تسُد، بين موظّفي القطاع العام ومتقاعديه. فلجأت وزارة المالية إلى إقرار زيادات لموظّفي بعض الوزارات وإدارات الدولة، بدون غيرهم من الموظّفين في الإدارات الأخرى. فثارت حفيظة مَن لم تشملهم الزيادات، وانفضَ العسكريون المتقاعدون في الشارع، فسارَعَ ميقاتي للطلب من وزير المالية يوسف الخليل، وقف العمل بالزيادات، فغضب مَن شملتهم الزيادة، فأعلنوا الإضراب العام والتوقّف عن العمل وشلّوا عمل الإدارات العامة.
وفي النتيجة، أصبح هناك موظّفون يطالبون الحكومة بدفع الزيادات التي وعدتهم بها انطلاقاً من أنها حقٌّ لهم، وموظّفون ومتقاعدون يرفضون الزيادات لموظّفين على حساب زملائهم. إذ يجب أن تشمل الزيادات جميع الموظفين انطلاقاً من المساواة بين الجميع في الوظيفة العامة.
لكن العسكري المتقاعد، يذهب بعيداً في تحليل خلفيات قرار الزيادة لموظفين بدون غيرهم، وبرأيه “تريد السلطة السياسية فرض حالة من الصراع الداخلي بين الموظفين والمتقاعدين، لتكسب بذلك الوقت وتفرض نِسباً مئوية أقل لأي زيادة قد تُطرَح بشكل رسمي. وبالتوازي، تستطيع أن تفرض نسب زيادات مختلفة بين القطاعات، وقد يوافق الموظّفون انطلاقاً من مبدأ خذ وطالب، أو خوفاً من أي مماطلة وتراجع عن قرار الزيادة، مهما كانت نسبتها”.
في المحصّلة، تسود صورة سوداوية لدى الموظّفين والمتقاعدين حيال مستقبل القطاع العام، خصوصاً مع اتجاه السلطة السياسية إلى تقليص حجمه بعيداً عن الدراسات العلمية المقرونة بتأمين حماية اجتماعية للمتقاعدين وتنشيط الاستثمارات وخلق بيئة مشجّعة للقطاع الخاص لزيادة فرص العمل لديه واستيعاب أعداد كبيرة من اليد العاملة التي ستأتي من القطاع العام.
فكل ما تفعله الدولة اليوم، هو تكريس فشل القطاع العام وتصويره بأنه سبب الأزمة أو الثِقل الذي يمنع خروج البلاد منها. علماً أن هذا القطاع شكّلَ مساحة آمنة للسلطة السياسية لكي تهدر وتتحاصص الأموال العامة على مدى أكثر من 30 عاماً.