كما هي العادة، لم يُرض مؤتمر الحوار السوري السوريين، بل يمكن القول إن نقده أو السخرية من مجرياته كانت السمة العامة لما يكتبه السوريون علي وسائل التواصل الاجتماعي، ما أن تم الإعلان عن موعد المؤتمر. وهذا أمر ليس بجديد في كل حال. فمنذ زمن طويل، بدأ بعد بداية الثورة في عام 2011، لم ينج أي حدث سوري عام من تعليقات السوريين السلبية في الغالب عليه؛ كل مؤتمرات المعارضة التي عقدت خلال سنوات ما بعد الثورة تعرضت للنقد، وتعرض أعضاؤها للشتائم والسخرية. وغالباً، لا يكون مرد النقد هو المؤتمر بحد ذاته، ذلك أن الجدال حوله يحدث بمجرد الإعلان عنه، أي قبل أن يصدر عنه أي بيان أو بنود أو مخرجات تؤسس لما بعده. الموضوع هو أن السوريين الذين حرموا طويلاً من العمل السياسي والجماعي لا يستطيعون الثقة بأي تجمع لا يجدون أنفسهم فيه، وستكون نظرية المؤامرة جاهزة. هذا النوع من التنمر السياسي حرم الحركة الثورية المدنية السورية من الفاعلية، ومن التواجد بقوة في الملعب السياسي المعارض، ذلك أن معظم المدنيين مستقلون، وما من كتلة بشرية (شعبوية) يمكنها أن تسندهم في حالات النقد والاتهام، ما جعل أغلبيتهم يفضلون الابتعاد عن العمل السياسي والثوري مكتفين بالكتابة الفردية أو بمراقبة ما يحدث.
لكن أمر مؤتمر الحوار الوطني الأخير يختلف كلياً عن مؤتمرات المعارضة في السنوات الماضية. هذا أول مؤتمر وطني يحدث بعد سقوط النظام وفرار الأسد، وأول مؤتمر وطني يحدث في قلب دمشق، وأول مؤتمر وطني يفترض أن يناقش المستقبل السوري وشكل الدولة، ويؤسس لدولة جديدة ومجتمع موحد، ويضع بنود المرحلة السياسية المقبلة التي في ضوئها ستتشكل الحكومة الشمولية، أو حكومة الوحدة الوطنية التي يشترط المجتمع الدولي وجودها قبل رفع العقوبات، بدلاً من حكومة اللون الواحد الإسلامية الموجودة حالياً، والتي يرى الكثير من السوريين أنها لا تمثلهم، فهي تحاول فرض أيديولوجيتها المتشددة على المجتمع السوري بكل فئاته، من دون استثناء، ما يعتبره المجتمع الدولي تهميشاً للمكونات السورية التي يتشكل منها المجتمع السوري، والذي عاش طويلاً بقيم إسلامية وسطية متلائمة مع الإسلام المحيط في دول الجوار.
غير أن ما حدث بما يخص هذا المؤتمر شكل ما يشبه الصدمة للسوريين في الداخل والخارج، بداية من اللجنة التي تم تشكيلها للدعوة للمؤتمر. فهذه اللجنة المؤلفة من سبعة أشخاص، باستثناء إحدى عضواتها، تتبع كلها لهيئة تحرير الشام، ولها ذات المنظومة الفكرية التي بنت عليها الهيئة كينونتها، وليس فيها أي شخص من المناطق التي كانت تحت حكم الأسد. فالسبعة كانوا يعيشون في إدلب أو خارج سوريا، ولا يعرف عنهم سوريو الداخل شيئاً، ولا هم يعرفون شيئاً عن هذا الداخل المركب والمعقد. وهو ما اتضح من خلال الاجتماعات التي عقدوها في المحافظات والمدن السورية، وكانت اجتماعات اتسمت بالاستعجال وبالعشوائية في الدعوات وبعدم البحث عن الشخصيات الوطنية السورية المترفعة عن الانتماءات الضيقة وعن الهويات ما قبل الوطنية، وبعدم الاكتراث بالخصوصيات المحلية في كل محافظة، خصوصاً عندما تعلق الأمر بالمحافظات الشرقية حيث ظهر الأمر بمثابة الفضيحة، حين امتنعت اللجنة عن الذهاب إلى تلك المحافظات، واستدعت بعض مواطنيها إلي دمشق لتعقد الجلسات من دون حضور كل أعضاء اللجنة؛ ثم ليتم الإعلان من دون سابق إنذار عن موعد مؤتمر الحوار الوطني خلال يومين، وقبل أن يعلن عن انتهاء الجلسات المخصصة لاستنباط من يجب دعوته إلي هذا المؤتمر. ومع غياب الجهة الإعلامية الرسمية التابعة للدولة والاكتفاء بأخبار تنشر هنا وهناك لا يعرف أحد صدقيتها، لم يصدق أحد أن عقد المؤتمر بهذه السرعة خبر حقيقي؛ وما من داع هنا للحديث عن تباهي “نجوم تيك توك” بصورهم مع المسؤولين وصور الدعوات التي وصلتهم لحضور المؤتمر، في الوقت الذي لم تصل فيه دعوة واحدة لأي مثقف أو نخبوي سوري سياسي أو فكري ممن أدوا دوراً كبيراً في عملية السلم الأهلي بعد التحرير. أما سوريو الخارج، بكل فئاتهم، فيبدون كما لو أنهم سُحبت منهم جنسيتهم السورية، حيث لم يستشرهم أحد بأي شيء، رغم أن وسائل الاتصال متاحة، ولا أسهل من عقد اجتماعات “زوم” مشتركة بين الداخل والخارج إكمالاً لمشروع الدعوة للمؤتمر. لكن لم يحدث هذا طبعاً، ولم يُدع ولا سياسي ولا مثقف ولا ناشط ولا فنان ممن هم خارج سوريا إلى هذا المؤتمر إلا قبل ساعات من موعد عقده، ما جعل كثر منهم يعتذرون بسبب ضيق الوقت، وبسبب تكاليف السفر الباهظة واحتياج بعضهم لترتيب الأوراق الخاصة بإقاماتهم في الدول التي يقيمون فيها، عدا عن المحسوبيات في الدعوات. فقد سرب موقع “زمان الوصل” السوري أسماء الحضور مع بياناتهم حيث كان مثلاً من بين المشاركين أربعة من عائلة أحد أعضاء اللجنة. وبينما حظيت إدلب بسبعين مشاركاً، لم يحضر من مدينة بحجم اللاذقية وريفها غير أربعة أشخاص!! ؟أما الحضور النسائي فكان أقل من ٢٠ في المئة من عدد الحضور، وهو ما بررته إحدى عضوات اللحنة، في تصربح يشبه الفضيحة، بعدم الاعتماد على الكوتا بل الكفاءة!! وهكذا، بدا الأمر كما لو أن ما يهم من كل هذا المؤتمر هو الإعلان عن عقده بحضور عدد محدد، بغض النظر عن دور هؤلاء الحضور وفعاليتهم في المؤتمر، خصوصاً أن الدعوة تتضمن محاور محددة للنقاش وتتضمن مدة محددة لكل شخص.
هل هكذا يُعقد مؤتمر وطني في دولة عانت من حروب مركبة ومن إجرام دولة لم يسبق له مثيل، ومن دمار اقتصادي وخدمي ومجتمعي وإنساني وثقافي وفكري وتعليمي وصحي وإداري ومؤسساتي، ومن محاولات انفصالية وجيوش وفصائل مسلحة مختلفة، ومن سلاح مخزن في كل مكان، ومن مقابر جماعية تُكتشف كل يوم، ومن ملف مفقودين هو الأخطر وطنياً، ومن ملايين اللاجئين الذين يعيشون في مخيمات تشبه العار، ومن اعتداءات إسرائيلية يومية واحتلالها المزيد من الأراضي السورية وتهديدها المتواصل بالوصول إلى العاصمة، ومن عقوبات دولية علي سوريا وعلي حكامها الجدد؟ ألا يثير أمر كهذا الريبة ويُفقد الثقة بمن يتولى شؤونها؟
عانت سوريا من حرب دامت 14 عاماً، ومن تصحر سياسي منع تشكيل أحزاب وهيئات مدنية، ومن انقسامات طائفية وصلت إلى حدود الحرب الأهلية، وما زالت تعاني من خطاب تحريضي يكاد يودي بسلمها الأهلي بالغ الهشاشة. هذا الوضع المعقد يستدعي وقتاً طويلاً تُعقد فيه حوارات متواصلة ومكثفة، يتم فيها ضمان مشاركة كافة الأطراف: مواطنون عاديون ومنظمات مدنية وليدة وأحزاب ناشئة ومجتمعات أهلية ومثقفون ورجال أعمال ومستثمرون وخصوم سابقون، على أن يكون نصفهم من النساء من كل مكونات المجتمع. هذه الحوارات تناقش جميع القضايا المهمة، مثل العدالة الانتقالية وإعادة بناء المؤسسات وضمان الحريات الفردية والعامة والسياسات الاقتصادية والسياسات الثقافية وحرية الابداع، ووضع المبادئ الأولية للإعلان الدستوري السابق لكتابة الدستور الجديد، وصوغ عقد اجتماعي جديد يضمن سلماً أهلياً دائماً، ويحقق التشاركية الكاملة في المجتمع والدولة. وعند الانتهاء من هذه الحوارات، يُعقد مؤتمر وطني تصدر عنه مخرجات ومبادئ واضحة ونهائية، يُصاغ على أساسها دستور البلاد الجديد الذي يبدأ به بناء الدولة الحقيقية.
ما حدث، للأسف، ليس مخيباً لآمال السوريين فحسب، بل هو استعادة لنفس المنظومة التي كانت تقود البلاد في أيام المجرم الفار… أقصد ما يُراد به مخاطبة المجتمع الدولي من دون الاكتراث للداخل، ومن دون الاعتناء به وبنائه بحب. وكأن قدر هذه السوريا الغريبة ألّا يحكمها من يحبها لذاتها، وكأن قدر السوريين أن يبقوا محكومين بمن يريدون أن يكتسبوا شرعيتهم من الخارج، لا من الداخل. وكأن الحكام الجدد يريدون بهذا المؤتمر الشبيه بمسرحية عبثية أن يشكلوا “سوريا مفيدة” لهم على غرار “سوريا المفيدة” لبشار الأسد. ولا أشك في أنهم سينجحون في هذا، ذلك أن كثيراً من السوريين لم يتخلصوا من إرث الأسد المتمثل بالتهليل لأي حاكم حتى لو كان متعسّفاً ومستبداً، ولا يتقفون عن دبج المدائح والتملق له لضمان البقاء من الخاصة. لكن، في المقابل، هذا الظلم الذي عانت منه فئات سورية كثيرة والتهميش والإقصاء الطويل، خلف غضباً هائلاً ما زال مكبوتاً في انتظار تحقيق الوعود التي قدمتها الحكومة الجديدة. لكن، مع المحاولات المستحدثة للتهميش والإقصاء، هذا الغضب سينفجر في لحظة غير متوقعة، وربما سيحمل من العنف ما لا يتوقعه أحد؛ إذ لا حدود لغضب المظلوم الذي يخذل مرات عديدة.