مع استمرار عملية فصل آلاف الموظفين التي تنفذها الإدارة السورية الانتقالية، يتصاعد الغضب الشعبي، ما يثير تساؤلات جوهرية حول شرعية هذه القرارات وتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية. هذه الإجراءات باتت تمثل عائقاً أمام استقرار المواطنين وثقتهم بالحكومة الجديدة، في ظل حالة متزايدة من عدم اليقين بشأن المستقبل الوظيفي لآلاف الأسر السورية.
فصل آلاف الموظفين من عدة قطاعات
في أحدث حصيلة لعمليات الفصل، أعلنت وزارة التربية والتعليم في الحكومة السورية الانتقالية عن تسريح 3 آلاف معلم، ما أثار موجة استياء واسعة في الأوساط التعليمية، حيث عبر العديد من المعلمين عن صدمتهم من القرار الذي جاء دون سابق إنذار. وفي محافظة اللاذقية وحدها، تم نشر قائمة بفصل 12 ألف موظف حكومي يعملون في وزارتي الصحة والتربية ومرفأ اللاذقية، وهو ما أثار قلقاً بالغاً حول مستقبل الخدمات العامة في المحافظة.
هذا القرار ليس الأول من نوعه؛ فقد أصدرت مديرية الصحة في الإدارة الانتقالية قبل أيام قراراً بفصل 336 طبيباً وموظفاً في القطاع الصحي بدمشق، ما أدى إلى شلل جزئي في تقديم الخدمات الطبية ببعض المرافق الصحية. كما أوقفت الشركة العامة للمنتجات الحديدية والفولاذية 500 عامل “لأجل غير مسمى” دون تقديم توضيحات للأسباب، مما زاد من التساؤلات حول الشفافية والعدالة في اتخاذ هذه القرارات.
امتدت قرارات الفصل لتشمل قطاعات واسعة أخرى، مثل وزارة الإعلام، مرافئ النقل البحري، الشركة السورية للطيران، وقطاع الجمارك. وقد تم تنفيذ هذه الإجراءات بطرق متعددة؛ حيث مُنح بعض الموظفين إجازة مدفوعة الأجر لمدة ثلاثة أشهر مع إحالتهم إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، في حين تم إنهاء عقود آخرين بشكل كامل، بما في ذلك ذوو الشهداء والمسرّحون من الخدمة العسكرية، ما أثار استياءً واسعاً في الشارع السوري ومخاوف من أن تؤدي هذه السياسات إلى تفاقم الأزمة الاجتماعية.
اقرأ أيضاً: هيئة “الرقابة والتفتيش” السورية تستبعد نحو 200 من كوادرها
زيادة الرواتب الموعودة وتأخر التنفيذ
تأتي هذه القرارات في ظل وعود متكررة من الإدارة السورية الانتقالية بزيادة مرتقبة على الرواتب بنسبة 400%، يُفترض تمويلها من خزانة الدولة ومساعدات إقليمية واستثمارات جديدة. وعلى الرغم من الإعلان عن هذه الزيادة منذ سقوط النظام السوري السابق، وتحديد الشهر الأول من عام 2025 كتاريخ مبدئي لتنفيذها، لم يُتخذ أي إجراء ملموس حتى الآن، ما يزيد من حالة الإحباط بين الموظفين الذين يواجهون ارتفاعاً مستمراً في تكاليف المعيشة دون تحسين فعلي في الأجور.
وعبرت أمل شاهين (49 عاماً)، ممرضة في المشفى الوطني باللاذقية، عن استيائها الشديد من قرار تسريحها بعد 28 عاماً من الخدمة المتواصلة. وقالت لموقع “963+” إنها وزميلاتها تم إبلاغهن بقرار الإجازة عبر تطبيق “واتساب”، ما اعتبرنه أسلوباً غير رسمي ومهين في التعامل مع كادر طبي قدم الكثير خلال الأزمات.
وأضافت شاهين: “واجهنا الكورونا والزلزال لسنوات، فهل يُعقل أن يُكافأ أصحاب الخبرة بهذه الطريقة؟ نحن من وقفنا في الخطوط الأمامية وقت الأزمات، فكيف يتم الاستغناء عنا بهذه البساطة؟”.
وفي مستشفى سلمية الوطني بحماة، أوضحت نور الصالح لـ”963+” أن 1470 موظفاً حصلوا على إجازة مدفوعة الأجر لثلاثة أشهر، معبرةً عن قلقها من أن يكون ذلك تمهيداً لفصل دائم دون أي ضمانات.
في مدينة حلب، خرجت مظاهرات غاضبة شارك فيها مئات الموظفين المفصولين، مطالبين بإلغاء قرارات الفصل التعسفية والالتزام بوعود زيادة الرواتب. رفع المتظاهرون شعارات تؤكد على أهمية الحفاظ على حقوق العمال وتوفير الاستقرار الوظيفي في هذه المرحلة الانتقالية الحساسة.
اقرأ أيضاً: الأموال المودعة وشطب الديون وتسليم الأسد… هل تلبي موسكو مطالب الشرع؟
تبريرات الإدارة السورية الانتقالية
من جانبها، بررت الإدارة السورية الانتقالية هذه الإجراءات بأنها تهدف إلى “إعادة توزيع الكوادر وفق الحاجة”. وأوضح حسين الخطيب، معاون القائم بأعمال وزارة الصحة، أن الإجازة لا تعني الفصل، بل تهدف إلى معالجة الترهل الوظيفي وتحسين كفاءة القطاع العام. وأكد أن الوزارة تعمل على إعادة تقييم احتياجاتها لتوزيع الموظفين بشكل أكثر عدالة وكفاءة.
وأشار وزير المالية محمد أبا زيد إلى أن 900 ألف موظف فقط من أصل 1.3 مليون يذهبون فعلياً إلى العمل، ما يستدعي إعادة هيكلة شاملة للتخلص مما وصفه بـ”الموظفين الأشباح”، وتوفير الموارد اللازمة لإعادة الإعمار وتحقيق التنمية الاقتصادية.
اقرأ أيضاً: كيف يكافح الموظف الحكومي السوري من أجل البقاء؟ – 963+
شرعية القرار وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية
وصف الدكتور رفعت عامر، الباحث في الاقتصاد الدولي والتنمية المستدامة، هذه القرارات بغير القانونية نظراً لغياب اللجان المختصة والفرز الحقيقي للوظائف. وأشار في حديث لـ”963+” إلى أن اتخاذ قرارات جماعية بالفصل دون إجراء دراسات دقيقة لاحتياجات القطاعات المختلفة يفتقر إلى العدالة ويؤدي إلى تعطيل الخدمات الأساسية.
وحذر عامر من تداعيات خطيرة قد تنجم عن هذه الإجراءات، مثل ارتفاع معدلات البطالة، تراجع القدرة الشرائية، وانهيار الخدمات الأساسية، خاصة في قطاعات التعليم والصحة التي تعتمد بشكل كبير على الخبرات المتراكمة.
كما أشار إلى أن هذه السياسات قد تؤدي إلى تفاقم الفقر المدقع وزيادة التوترات الاجتماعية، وربما تدفع بعض الشباب المفصولين للجوء إلى أعمال غير قانونية، ما يهدد الاستقرار الاجتماعي والأمني في البلاد.
وختم عامر قائلاً: “لا يمكن تحميل الأفراد مسؤولية فساد النظام السابق، وكان الأجدى تأجيل هذه الملفات إلى حين استكمال بناء مؤسسات الدولة الدستورية والقضائية لضمان عدالة وشفافية القرارات، مع ضرورة تشكيل لجان مستقلة لدراسة أوضاع الموظفين وفق معايير واضحة ومنصفة”.