أثار “مؤتمر الحوار الوطني” الذي عقد نهاية شباط/فبراير الماضي بدمشق الكثير من الانتقادات التي طاولته من مختلف الجوانب: سواء فيما يتعلق بقصر مدة التحضير للمؤتمر وفوضى الجلسات التمهيدية المخصصة للمحافظات، مروراً بالدعوات الموجهة للمشاركين قبل يوم واحد من انعقاده، وصولاً للمعايير الضبابية في اختيار الأشخاص المشاركين. كل هذه الانتقادات وأكثر تحاول بشكل أو بآخر قياس مدى نجاح وفشل المؤتمر مع شرح المسببات حسب وجهة نظرها.
إلا أن السؤال الأساسي الذي يجب أن يطرح هنا هو حول طبيعة المؤتمر نفسه: هل هو فعلاً مؤتمر للحوار الوطني؟ وهل يكفي ما يفترضه المنظمون من أن اجتماعاً كهذا يمكن اعتباره مؤتمر حوار وطني لمجرد أنه يجمع بين أشخاص سوريين ليس بينهم “أجانب” من أجل الجلوس والتحدث معاً؟ غير أن ما حصل جاء عكس ما أراد المنظّمون قوله، إذ لم يكن يُنتظر من مؤتمر يحمل اسماً فضفاضاً كمؤتمر الحوار الوطني والمنعقد بقرار، أو بإرادة عليا، من “رئيس الجمهورية” وبدعم من أجهزة الدولة، أن لا يتجاوز في مضمونه مجرد جلسة نقاش عامة يمكن أن تقيمها وتدعمها أي منظمة مدنية في سوريا.
والحال أنه كان ينبغي على مؤتمر الحوار الوطني، بوصفه مؤتمر حوار أولاً، أن يكون المشاركون فيه من “أصحاب المصلحة” والحل والربط في موضوع الحوار، وليس مجرد أشخاص ملمين بالموضوع، مهما بلغت درجة إلمامهم. و”أصحاب المصلحة” في الحوار الوطني بطبيعة الحال هم المنضوون في القوى والتنظيمات السياسية والاجتماعية – السياسية التي تتأثر بنتائج الحوار وتؤثر فيه، وكل ذلك بفرض أن هدف المؤتمر هو معالجة القضايا السياسية والاجتماعية الإشكالية في سوريا.
إلا أن ما فعلته اللجنة التحضيرية للمؤتمر كان عكس ذلك تماماً، ذلك أنها استثنت تلك القوى وأعدّت بشكل مدروس قائمة المشاركين على أن تكون مكونة بغالبيتها العظمى من الأفراد المستقلين الذين لا يمثلون أي توجّه سياسيّ أو أية تعبيرات إثنيّة وجهوية ومذهبية، بل إنّ المشاركين لا ينتمون أصلاً إلى متن العمل السياسيّ السوري، أي لا يملكون رؤى تخص الحل والربط في الموضوعات المدرجة للنقاش. وبهذه الطريقة أعفتهم اللجنة من تحملهم المسؤولية عن طروحاتهم خلال الحوار، وعن مخرجات الحوار ونتائجه، ما يعني بالتالي أنهم لم يعودوا يملكون الحق في القرار بشأنها.
كان لزوم توفر ثنائية “المسؤولية – القرار” لدى المشاركين في الحوار يستوجب بالضرورة استبعاداً شبه كامل للأفراد المستقلين باستثناء قلة من الخبراء غير المقررين بهدف إغناء الحوار؛ فجوهر النجاح في أي حوار بين أطراف مختلفين حول قضية معينة يعتمد بشكل كبير على قدرة ورغبة هذه الأطراف على اتخاذ القرار بشأن تقديم التنازلات المطلوبة، وهو ما يعني ضمنياً قبولها تحمل المسؤولية والخسائر الناتجة عن قراراتها فيما لو ظهر خطأها، لذا، إن لم يكن لدى المتحاورين ما يخسرونه، فإنه لا ضامن للمجتمعات التي يدّعون تمثيلها ألا تكون قراراتهم قد أخذت على نحو اعتباطي أو بناء على دوافع أنانية فردية. لهذه السبب بالذات، جرى العرف في العالم على أن يكون المشاركون في الحوار الوطني من القوى والحركات السياسية أو حتى الاجتماعية – السياسية، وليس من الأفراد المستقلين، فهذه القوى لديها، من جهة، القدرة على التأثير في مجتمعاتها (وبالتالي تملك تفويضاً بتمثيلها)، كما لديها في المقابل ما تخسره إن فشلت في إقناع جمهورها بالفائدة الناجمة عن مخرجات الحوار وبضرورة تقديم بعض التنازلات، كأن يتعرض حزب سياسي لاستقالات جماعية في صفوف المنتسبين إليه بتهمة مخالفة مبادئ الحزب وشعاراته، وهي خسارة وجودية فادحة لأنها تهدد استمرار هذه المؤسسات نفسها. بالمقابل، ما الذي سيخسره الفرد المستقل المشارك في مثل هذا الحوار؟ إذ لا جمهور له أصلاً حتى يدعي تمثيله، وهو حتى إن ادعى ذلك فليس له ما يخسره مادياً ومعنوياً مهما كانت القرارات التي يتخذها.
إن طريقة التعامل هذه مع الشعب السوري بوصفه مجرد مجموعة من الأفراد فحسب ليس بدعة اخترعها الشرع، أو اللجنة التحضيرية للمؤتمر، بل تكرّرت مرتين في سوريا قبل تجربة البعث، وأنتجت في جميعها نتائج كارثية على البلاد؛ الأولى كانت بعد الانقلاب الثاني لأديب الشيشكلي عام 1951 وحظره الأحزاب السياسية قبل تشكيله “حركة التحرير العربي” التي جمعت إلى جانب قلة من مؤيديه من القوميين السوريين، عدداً كبيراً الأفراد المستقلين الطامحين للمناصب، وأدت بشكل مباشر إلى تشييد الشيشكلي لنموذجه الديكتاتوري. المرة الثانية كانت بعد الوحدة مع مصر واستجابة السوريين لشرط جمال عبد الناصر بحل الأحزاب وإيقاف الحياة السياسية في البلاد لصالح “الاتحاد القومي” الذي جمع في داخله، كما حزب الشيشكلي، أغلبيتين: مؤيّدة وانتهازية، فأدّت تلك التجربة إلى حملات قمع همجية ليس فقط ضد الحزبين الشيوعي والقومي السوري اللذين لم يرضخا لقرار “الحلّ”، وإنما كذلك ضد بقايا البعث ممن كانوا من أبرز مؤيديّ عبد الناصر. ما فعلته هاتان السلطتان، ومن بعدهما سلطة البعث، من خلال حكم الحزب الواحد، أنها قطعت الطريق أمام أي مطلب، سياسياً كان أو اجتماعياً، من اكتساب شكل من الشرعية الشعبية التي كانت تكتسب عادة إذا ما طرح هذا المطلب أو تبناه حزب أو تحالف سياسي. أما مع اختفاء الأحزاب وتلاشي دورها في المجال العام، لم يعد بوسع الأفراد الادعاء بوجود شرعية شعبية لمطالبهم، ليتحول حزب السلطة (الواجهة الشعبية للسلطة) إلى المصدر الوحيد الذي يمنح أو يمنع الشرعية. ما فعلته اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني من استبعاد القوى السياسية عملياً وتركيزها على انتقاء أفراد ليس لديهم أدنى شروط التمثيل السياسي، يصب تماماً في منحى التجارب السورية السابقة والتي انتهت بالديكتاتورية.
إن مشاركة 600 شخص في مؤتمر ما لا يشترط أن يجعل منه مؤتمراً للحوار، وأن يكون المشاركون من مختلف المحافظات السورية لا يجعله مؤتمر حوار وطني. ما كان على اللجنة التحضيرية العمل عليه هو أن تستقطب أكبر عدد من القوى السياسية للمشاركة في المؤتمر، وأن تكون هذه القوى متنوعة على مستوى المكونات التي تمثلها والأفكار التي تطرحها في المؤتمر، حينها كان من الممكن الحديث عن نجاح أو فشل مؤتمر الحوار الوطني السوري، أما والحالة هي على ما خرجت بها اللجنة التحضيرية، فيمكن القول إن مؤتمر الحوار الوطني لم يعقد أصلاً، وأن ما حصل من اجتماع بين أفراد مستقلين يومي 25-26 شباط الماضي لم يكن إلا جلسة علاقات عامة أو، في أحسن الأحوال، مؤتمر حوار فردي عقد نقاشاً بين أشخاص لا يمثلون أي مجموعات سكانية وخرجوا بنتائج لا تُلزم حتى المشاركين فيه، وهو ما قالته حقاً سلطة دمشق بأن نتائج المؤتمر غير ملزمة، أي أنها في أفضل أحوالها آراء للاستئناس ليس إلّا.