شهدت العاصمة السعودية الرياض، يوم الثلاثاء الماضي، انطلاق مباحثات ثنائية هامة بين الولايات المتحدة وروسيا، تكتسب دلالات فارقة على عدة مستويات، سواء فيما يتعلق بالعلاقات الثنائية بين البلدين أو الملفات الدولية الساخنة، بما في ذلك الحد من سباق التسلح، وحرب أوكرانيا، والأمن في منطقة الشرق الأوسط.
وأكد الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن المحادثات التي جرت في الرياض كانت “جيدة جداً”، متوقعاً عقد قمة مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين قبل نهاية شباط/ فبراير الجاري. وأتت هذه المباحثات في ظل متابعة دولية مكثفة، خاصة بعد سنوات من القطيعة والخلافات بين موسكو وواشنطن منذ اندلاع حرب أوكرانيا في فبراير 2022.
وجاء اللقاء التحضيري، الذي ضم وزيري الخارجية الأميركي ماركو روبيو والروسي سيرغي لافروف، كبداية لتمهيد الطريق للقاء الزعيمين، في خطوة تتماشى مع رغبة ترامب المعلنة منذ أشهر في إنهاء الحرب الأوكرانية والجلوس إلى طاولة الحوار مع بوتين، الذي أبدى بدوره استعداده لهذا اللقاء.
قلق أوروبي وترقب في الشرق الأوسط
تثير هذه المساعي الأميركية الروسية قلق الحلفاء الأوروبيين وكييف، حيث عبر مسؤولون في حلف شمال الأطلسي (الناتو) عن مخاوفهم من احتمال توصل البيت الأبيض إلى اتفاق بمعزل عنهم. كما يراقب الشرق الأوسط تطورات المحادثات بترقب شديد، نظراً لارتباطها بعدد من الملفات الإقليمية الحساسة، بما في ذلك نفوذ إيران، التدخلات التركية، الوضع في سوريا ولبنان، ومستقبل قطاع غزة وحركة “حماس”.
ويقول برنارد هيكل، أستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة برنستون الأميركية، في تصريحات خاصة لموقع “963+”: “المملكة العربية السعودية طورت مكانة مركزية عالمية، ونرى ذلك جلياً في الاجتماعات بين الأميركيين والروس في الرياض”.
ويضيف: “هذا يعود إلى السياسات الماهرة التي انتهجها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، حيث سعى على مدى السنوات الماضية إلى بناء علاقات متينة مع قادة العالم. ومن الملاحظ أن استبعاد الدول الأوروبية من هذه الاجتماعات لا يرتبط بالقرار السعودي، وإنما بخيارات واشنطن وموسكو”.
ويرى هيكل أن هذه المباحثات “تمثل خطوة أولى نحو سلام محتمل بين روسيا وأوكرانيا، لكن لا يزال هناك طريق طويل قبل تحقيق ذلك”.
تأثير المحادثات على سوريا
فيما يتعلق بالملف السوري، يشير هيكل إلى أن الوضع هناك “أقل ارتباطاً بالحرب الأوكرانية، حيث أن تأثيره يتصل بشكل أكبر بعوامل إقليمية تشمل تركيا، الدول العربية، وإسرائيل أكثر من ارتباطه بموسكو وواشنطن”. كما يوضح أن هناك “انقساماً في الرؤى بشأن سوريا، حيث تسعى الرياض إلى استقرار البلاد عبر بناء مؤسسات قوية، في حين ترغب بعض القوى الإقليمية في تقسيمها إلى مناطق نفوذ مختلفة”.
وشملت المحادثات التي استمرت لأكثر من أربع ساعات عدة محاور رئيسية، من بينها تطبيع العلاقات بين موسكو وواشنطن، تعزيز التعاون الاقتصادي، التوصل إلى تسوية بشأن الأزمة الأوكرانية، بالإضافة إلى قضايا الأمن الدولي، الحد من سباق التسلح، والملفات المتعلقة بفلسطين وسوريا وإيران، والعلاقات مع الصين.
انعكاسات التقارب الإقليمية
يعتقد ديمتري بريجع، مدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، أن “اللقاء المرتقب بين ترامب وبوتين قد يسهم في تعزيز الاستقرار في الشرق الأوسط، خاصة فيما يتعلق بالوضع في سوريا”.
ويضيف في تصريحاته لـ”963+”: “أي تقارب بين موسكو وواشنطن قد يؤدي إلى تنسيق أكثر فعالية في معالجة القضايا الإقليمية، لكن استبعاد أوكرانيا والدول الأوروبية من هذه المحادثات يثير قلقًا في كييف والعواصم الأوروبية، إذ يخشى البعض من تقديم تنازلات لروسيا على حساب المصالح الأوكرانية والأوروبية”.
ويرى بريجع أن أي تسوية أميركية روسية قد تؤدي إلى إعادة رسم التوازنات الدولية، ما قد يؤثر على مستقبل أوكرانيا وحلفائها الغربيين.
انعكاسات على المشهد السوري
في السياق ذاته، يشير الباحث الروسي إلى أن “أي تقارب أميركي روسي قد يعيد تشكيل معادلات النفوذ في سوريا، خاصة فيما يتعلق بالوجود العسكري والدعم السياسي للأطراف المتصارعة”.
ويضيف: “إذا تمكنت موسكو وواشنطن من تحقيق تفاهمات حول القضايا الأمنية والإنسانية في سوريا، فقد يشكل ذلك فرصة لدفع العملية السياسية، لكن مدى نجاح هذا المسار سيعتمد على توافقهما بشأن طبيعة النظام السياسي المستقبلي ودور الفاعلين الإقليميين مثل تركيا وإيران”.
ويرى الخبراء أن انفراج العلاقات الأميركية الروسية قد يؤدي إلى تغييرات جوهرية في إدارة الملفات الإقليمية، لا سيما في سوريا وإيران. فالتقارب بين موسكو وواشنطن قد يساهم في تهدئة الأوضاع الميدانية بسوريا، كما قد ينعكس على الملف الإيراني، حيث يمكن أن تستخدم الولايات المتحدة علاقتها المستجدة مع روسيا للضغط على طهران فيما يتعلق ببرنامجها النووي أو تدخلاتها الإقليمية.
تحولات استراتيجية في المنطقة
من جانبه، يقول الباحث في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، سمير تقي، إن “المنطقة تشهد تحولات استراتيجية معقدة تفرضها المتغيرات الدولية والإقليمية، خاصة في ظل الاجتماعات التي تشهدها الرياض واللقاء المرتقب بين بوتين وترامب”.
ويضيف في تصريحاته لـ”963+” أن “المرحلة الأولى من رئاسة ترامب شهدت تفويضاً أميركياً ضمنياً لروسيا لإدارة الملف السوري، لكن هذا التفويض بدأ بالتراجع تدريجياً مع تصاعد التوتر بين البلدين بعد غزو أوكرانيا”.
ويشير تقي إلى أن “هجوم 7 أكتوبر أدى إلى انهيار تفاهمات غير مباشرة بين إسرائيل وإيران، مما زاد تعقيد المشهد السياسي في المنطقة، في وقت برزت فيه تركيا كلاعب رئيسي مستفيدة من التراجع الروسي في بعض الملفات”.
ويعتقد تقي أن “هناك تساؤلات حول ما إذا كان ترامب في حال فوزه بولاية ثانية سيعيد تفويض روسيا في الشرق الأوسط، لكن هذا الاحتمال يواجه عقبات كبيرة، خاصة مع الموقف الأوروبي المتشدد ضد موسكو والتوازنات الداخلية في واشنطن”.
ويضيف: “رغم أن روسيا ستسعى للحفاظ على نفوذها في سوريا، إلا أن موازين القوى لم تعد تميل لصالحها كما كان الحال سابقًا. الشرق الأوسط اليوم أكثر تعقيداً، وتسعى أطراف كتركيا وإسرائيل وأوروبا لتعزيز مواقعها، مما يجعل أي تغييرات جذرية في السياسة الأميركية تجاه موسكو موضع تساؤل كبير”.