لا يزال ملف المعتقلين السوريين في السجون اللبنانية عالقاً دون تنفيذ الاتفاق الذي تم التوصل إليه مؤخراً بين سوريا ولبنان، والذي نصّ على تسليمهم للسلطات السورية لاستكمال محاكمتهم في بلدهم. هذا التعثر يثير تساؤلات حول أسباب عدم تنفيذ الاتفاق وما إذا كان سيتم إدراجه ضمن أولويات المرحلة الانتقالية في سوريا، أم أنه سيظل مهمشاً كما كان خلال عهد النظام السابق.
إضرابات واحتجاجات مستمرة
على وقع هذا الجمود، لجأ أكثر من 100 سجين سوري في “سجن رومية المركزي” إلى الإضراب المفتوح عن الطعام منذ أكثر من أسبوع، احتجاجاً على عدم تنفيذ الاتفاق بين دمشق وبيروت. كما شهدت قرى سورية على الحدود مع لبنان، الجمعة الماضية، احتجاجات شعبية طالب فيها المتظاهرون رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع، بالعمل على إطلاق سراح المعتقلين السوريين في السجون اللبنانية.
وكان رئيس الحكومة اللبنانية السابق، نجيب ميقاتي، قد التقى الشرع في دمشق منتصف كانون الثاني/ يناير الماضي، وأعلنت وزارة الخارجية السورية حينها أنه “تم الاتفاق على استعادة كافة المعتقلين السوريين من لبنان، وبدأت إجراءات استعادتهم”، إلا أن هذا الاتفاق لم يُنفذ حتى الآن.
وبحسب تقارير حقوقية، فإن عدد المحتجزين السوريين في السجون اللبنانية يقدر بحوالي 2000 شخص، من بينهم نحو 200 معتقل على خلفية انشقاقهم عن النظام السوري السابق ومشاركتهم في الثورة السورية.
وفي هذا السياق، صرّح متحدث باسم السجناء السوريين في “رومية المركزي” لقناة “الحدث” السعودية، قائلاً إن “الإضراب سيستمر حتى يتم إعطاء هذا الملف الأولوية من قبل الشرع”، مشيراً إلى أن سجناء الرأي يرفضون دمجهم مع السجناء الجنائيين المتهمين بقضايا مثل السرقة والمخدرات والتزوير، معتبرين أن قضيتهم سياسية بحتة ولا يجب أن يتم التعامل معها كقضايا جنائية.
اقرأ أيضاً: دمشق وبيروت تتفقان على إعادة المعتقلين السوريين من سجون لبنان
أسباب تأخر تنفيذ الاتفاق
في تصريحات خاصة لموقع “963+”، أوضح المحامي وعضو هيئة الدفاع عن معتقلي الرأي والضمير في سوريا، بسام العيسمي، المقيم في فيينا، أن تأخر تنفيذ الاتفاق بين الشرع وميقاتي يعود إلى أسباب سياسية ولوجستية وقضائية.
وأضاف العيسمي أن “الإدارة الجديدة في دمشق قادرة على تسوية أوضاع هؤلاء المعتقلين وإعادتهم، لكن الأمر يحتاج إلى بعض الوقت، نظراً لكون المؤسسات القضائية بدأت للتو الخطوات الأولى لإعادة تفعيل العمل القضائي”.
وأكد أن ملف المعتقلين السوريين في السجون اللبنانية سيكون ضمن أولويات المرحلة الانتقالية، مشيراً إلى أن “العمل على هذا الملف وتحقيق العدالة لبلسمة جراح السوريين هو قضية وطنية وإنسانية بامتياز”.
من جانبه، أرجع الدكتور اللبناني علي بيضون، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، التأخير في تنفيذ الاتفاق إلى “دخول لبنان في عهد سياسي جديد بعد انتخاب رئيس جمهورية جديد وتشكيل حكومة جديدة”.
وفي حديث خاص لـ”963+”، قال بيضون إن “هناك تعقيدات متعددة على المستوى السياسي والقضائي بملف المسجونين السوريين في لبنان”، موضحاً أن “الحكومة الجديدة في سوريا مؤقتة، وكذلك الحكومة اللبنانية لم تباشر أعمالها بعد ولم تحصل على الشرعية الكاملة للبت في قضايا أساسية ومصيرية”.
وأضاف أن “هذا الملف مرتبط أيضاً بالاستقرار السياسي في كلا البلدين، خصوصاً لبنان، الذي خرج مؤخراً من حرب مدمرة بين حزب الله وإسرائيل”، مشدداً على أن “الملف سيكون على رأس أولويات السلطات الجديدة في دمشق وبيروت، إلى جانب ملفات أخرى تتعلق بالاستقرار والأمن على الحدود المشتركة”.
اقرأ أيضاً: بين لبنان وسوريا… مسار جديد ترسمه زيارة رسمية إلى دمشق
الأبعاد السياسية والعراقيل القانونية
يعدّ ملف المعتقلين بين دمشق وبيروت من أكثر الملفات تعقيداً، نظراً لطبيعة العلاقة الوصائية السابقة بين النظام السوري السابق والسلطات اللبنانية المتعاقبة، حيث تتشابك فيه الأبعاد السياسية مع القانونية والإنسانية.
وتشير تقارير حقوقية إلى وجود معتقلين ومختفين قسراً لبنانيين في السجون السورية منذ عقود، وهو ما يثير تساؤلات حول إمكانية معالجة هذا الملف إلى جانب قضية المعتقلين السوريين في لبنان.
وفي هذا السياق، أشار العيسمي إلى أن “نظام الأسد المخلوع سلّم عام 2000 للسلطات اللبنانية 54 معتقلاً سياسياً لبنانياً، لكنه لم يعترف بوجود أي معتقل لبناني آخر في سجونه حتى سقوطه”. وأوضح أن “هذا الملف لا يقتصر فقط على معالجة المعتقلين السوريين في لبنان، بل يجب أيضاً معالجة قضية السجناء اللبنانيين المفقودين في السجون السورية”.
اقرأ أيضاً: مظاهرات لذوي سجناء سوريين معتقلين في لبنان للمطالبة بالإفراج عنهم
ظروف المعتقلين السوريين في لبنان
بدوره، تحدث مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، لـ”963+” عن الظروف التي يعيشها المعتقلون السوريون في السجون اللبنانية، قائلاً إن “المعتقلين، خاصة في سجن رومية، يعانون من ظروف احتجاز غير إنسانية تشمل الاكتظاظ الشديد، انعدام الرعاية الصحية والغذائية، وانتشار الأمراض المعدية، إضافة إلى حرمانهم من التواصل مع ذويهم”.
وأضاف عبد الغني أن “العديد من المعتقلين خضعوا لمحاكمات غير عادلة أمام المحاكم العسكرية اللبنانية، استناداً إلى اعترافات انتُزعت منهم تحت التعذيب والتهديد، وتم توجيه تهم الإرهاب إليهم بناءً على هذه الاعترافات، ما أدى إلى إصدار أحكام قاسية بالسجن لسنوات طويلة، أو إبقائهم في الحبس الاحتياطي دون تحديد مدة زمنية واضحة”.
وشدد عبد الغني على “ضرورة التنسيق بين دمشق وبيروت لوضع آلية قانونية لإعادة المعتقلين وضمان خضوعهم لمحاكمات عادلة، وتهيئة بيئة آمنة للعائدين لمنع تعرضهم للاعتقال التعسفي أو سوء المعاملة”، داعياً الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية إلى الإشراف على عمليات الإعادة وضمان احترام المعايير الدولية.
أما من وجهة نظر المحامي العيسمي، فإن “معالجة هذا الملف تتطلب الرجوع إلى الاتفاقيات القضائية المبرمة بين البلدين منذ عام 1951، وما تلاها من بروتوكولات”، مشدداً على ضرورة “تفعيل الاتفاقية القضائية بين البلدين لتكون إطاراً قانونياً يتم عبر المؤسسات القضائية المختصة والقنوات الديبلوماسية”.
من جهته، رأى الأكاديمي اللبناني علي بيضون أن “إضراب المعتقلين السوريين عن الطعام قد يُحرّك ملفهم المنسي ويضغط باتجاه المستوى السياسي، مما يسرّع من تفعيل الاتفاق بين الشرع وميقاتي”، لكنه أشار في تصريحات لـ”963+” إلى أن “وضع حلول دائمة يتطلب فرز الملفات بعناية، نظراً لتنوع خلفيات المعتقلين بين معتقلي رأي، ومتهمين بجرائم جنائية، وجرائم تتعلق بالإرهاب وتهريب الأسلحة”.
وفي ظل استمرار الإضراب والاحتجاجات، يرى مراقبون أن قضية المعتقلين السوريين في السجون اللبنانية ليست مجرد قضية سياسية، بل مسؤولية أخلاقية وإنسانية تتطلب تحركاً عاجلاً لإنصاف المعتقلين، لا سيما من تم اعتقالهم بشكل تعسفي بسبب مناهضتهم لنظام الأسد السابق، فمعاناتهم ليست مجرد أرقام في التقارير الحقوقية، بل قصص مأساوية تتطلب حلولاً جادة وعاجلة.