من التعاريف المتداولة عن مفهوم الوطن هو أنه “المكان الذي يقيم فيه الإنسان مع جماعة من الناس، ويربطه بهم التاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة. وهو أيضاً مسقط الرأس والمكان الذي تشكّلت فيه شخصية هذا الكائن أو ذاك، ليعبّر عن قيّم هذا المكان وثقافته وعاداته”. هذا التعريف يبدو عاماً وغير واقعي، خصوصاً في وقتنا الحالي، حيث يمكن لأي إنسان أن يقيم مع جماعة من الناس يربطه بهم تاريخ وجغرافيا ومصالح مشتركة في أي مكان من هذا العالم، وما أكثر الأمثلة الراهنة عن ذلك؛ فلو تحدثنا عن مجموعات السوريين المقيمين في الدول الأوروبية منذ بدايات العقد الماضي، لانطبق عليهم تعريف الوطن السابق بسهولة، إذ يعيش السوريون في أي مدينة من مدن أوروبا ضمن مجتمع يمكن القول عنه إنه مغلق عليهم، ويربطهم بعضهم ببعض التاريخ السوري وأحداثه التي أوصلتهم إلى هذه المدينة أو تلك وتربطهم، راهناً، جغرافيا المكان حيث يقيمون، وتربطهم مصالح مشتركة تتمثل في تنظيم عيشهم في مجتمعهم الجديد ومحاولات تأقلمهم واندماجهم ومساعدة بعضهم البعض للوصول إلى ذلك، وتربطهم أيضاً أمنيات خلاص سوريا مما هي فيه علّهم يتمكنوا من زيارتها وقتما يشاؤون، ذلك أن ما يربطهم أيضاً هو عدم رغبة غالبيتهم في العودة النهائية إلى سوريا/ الوطن الذي يفترض أن يكون وطنهم.
أما بخصوص مسقط الرأس، فيدحض هذا التعريف المواليد السوريين الذين ولدوا في الدول التي انتقلت إليها عائلاتهم وأسرهم في وقت ما، وسيكبرون فيها وتتشكل شخصياتهم وثقافاتهم وعاداتهم بناء على ما ستكون عليه حالات أسرهم في هذه البلاد.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مع نهاية الكولونيالية بمفهومها التقليدي وانتقال الكثير من مواطني الدول التي كانت واقعة تحت الاحتلالات إلى دول أخرى، سواء فترة الحرب هرباً من الموت، أو بعدها بحثاً عن فرص حياة سهلتها دول الاحتلال القديم رغبة منها في تأمين أيد عاملة لبناء ما هدمته الحرب. انتهى مفهوم الوطن بمعناه الرومانسي وتعريفه العام، إذ ولدت أجيال جديدة في أوروبا لا تعرف عن أوطانها الأصلية سوى ذاكرة عائلاتها وسردياتهم عن أوطان قديمة بثقافات مغايرة. وهو الأمر الذي جعل من مصطلح الوطن ملتبساً لدى هذه الأجيال التي تتكلم لغة أخرى غير لغة أوطانها الأصلية. كما جعل المصطلح نفسه مفرغاً من معناه في الأوطان القديمة ذات الدول الفاشلة والمجتمعات الفاشلة، فلا تجد الشعوب فيها ما تتمسك به من بقايا فكرة الوطن سوى شعارات فارغة تكرسها عادة أنظمة مستبدة تحاول تعزيز الشوفينية لدى شعوبها عبر مصطلحات كالأوطان العظيمة أو الشعوب العظيمة، وتجعل (العظمة) تلك مرهونة بوجودها، بحيث تصبح معارضة تلك الأنظمة هي خيانة للفكرة الكبيرة المسماة وطن عظيم. لكن هذه الشعارات سرعان ما تكشفت هشاشتها، أخيراً، خلال العقد الماضي، مع الخروج الجماعي إلى مجتمعات جديدة، بسبب المجازر والحروب والانهيارات المعيشية والفساد السياسي والاجتماعي والاقتصادي. ولم يبق من المؤمنين بتلك الشعارات سوى بقايا إيديولوجيين يرفضون رؤية المتغيرات، أو مجموعات من المرتبطين بالأنظمة المستبدة سواء اقتصادياً أو عقائدياً أو نتيجة الخوف من أي تغيير.
يرتبط الوطن بالمواطنة، أي بالحقوق الكاملة التي يحصل عليها الإنسان في المكان الذي يعيش فيه، حقه في الحياة والتعبير والاعتقاد والحرية العامة والشخصية والفردانية والعمل والتعليم والطبابة والعدالة والسفر والتنقل، حقه في المساواة الكاملة مع الجميع، وحقه في الطموح والفرص المتاحة، حقه في العيش الكريم وفي الأمان الاجتماعي والاقتصادي، حقه في شيخوخة مصانة من العوز والاحتياج. بالمقابل عليه واجبات تحددها قوانين الدولة التي يعيش بها، ينبغي أن لا تتعارض مع حقوقه أو تمسها بأي شكل من الأشكال. تلك الحقوق هي ما تشكل الوطن، هي ما تجعل من المكان الذي يعيش به هذا الشخص أو ذاك وطناً، أما مسقط الرأس والعادات والثقافة فهي ليست أكثر من مجموعة من الصدف الجغرافية والبيولوجية جعلت هذا الشخص ينتمي إلى مكان ما ويراكم مجموعة من القيم (سواء قيم إيجابية أو سلبية)، كانت ستتغير لو أن المساحة الجغرافية التي ولد بها اختلفت أو تغيرت حتى لو كان لنفس الأبوين؛ فمثلا: هل سيكون لطفل من أبوين سوريين أنجباه في قرية ما في ريف سوريا نفس القيم التي سيحملها في المستقبل لو أن نفس الأبوين أنجباه في مدينة أوروبية أو أميركية ؟! ما هو الوطن في الحالتين؟ وما الذي سيحدّد معناه ومفهومه وتعريفه؟
والحال أن عصرنا الحالي بكل ما فيه من متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية ومناخية وتكنولوجية، وبكل ما فيه من صراعات وحروب وكوارث طبيعية وبشرية، قد أسقط الكثير من المفاهيم التي كانت بمثابة البديهيات حتى وقت قريب، منها مفهوم الوطن، أو ربما هو أهمها على الإطلاق، خصوصاً مع الموجات الكبرى للهجرة واللجوء بحثاً عن الأمان وهرباً من الموت أو الفقر أو التشرد. فما معنى الوطن إن كان مصيرك فيه هو الذل، وما معناه إن كانت أحلامك تنحصر في تركه ومغادرته إلى غير رجعة، وما قيمة الوطن حين لا تجد لك ولا لأولادك أي فرصة فيه للعيش الكريم، وما أهمية انتمائك إليه إن كنت ممنوعاً من الخروج منه أو من العودة إليه؟ كيف سيكون وطناً ذلك المكان الذي يحاصرك بعنفه وغطرسته وقمعه إن كنت فيه أو إن خرجت منه؟ وطنك هو حيث تجد كرامتك وأمانك واحترامك ورزقك ومستقبل أولادك، حين تجد كل ذلك سوف تشعر بالانتماء وسوف تجد من يشاركك أحلامك وآمالك، الوطن هو المكان الذي يمنحك المرونة لتقبّل كل الثقافات والاحتفاظ بثقافتك التي اخترتها أو اختبرتها أو راكمتها. أما الحديث عن الحنين للوطن القديم وعدم القدرة على العيش خارجه، فهو إما عجز عن المرونة والتأقلّم والإصرار على التمسك بثقافة وحيدة تتناقض مع ثقافة المجتمع الجديد، أو هو بسبب الفشل الذي ظهر لدى الكثير من دول العالم في معالجة مشاكل المهاجرين واللاجئين وطرق دمجهم في المجتمعات الجديدة.