كتبت قبل أيام منشوراً علي صفحتي في الفيسبوك، أتحدث فيه عن المعايير التي سوف تعتمدها لجنة الحوار الوطني التي تم تشكيلها أخيراً من قبل رئيس المرحلة الانتقالية، في دعوتها للمشاركين في المؤتمر، خصوصاً وأن أحد أعضاء اللجنة صرح في مؤتمر صحفي أنه لن تتم الدعوات لا على أساس طائفي ولا مناطقي ولا مذهبي وإنما بناءً على وطنية الشخص السوري، مستثنياً قوات سوريا الديموقراطية (قسد) من الدعوة للحوار.
وتساءلت في منشوري عن المعيار الذي سوف يستخدم للدعوة بين شخصين يحملان نفس المؤهل العلمي ولديهما ذات الخبرة وذات السمعة الطيبة أحدهما درزي والآخر سني، فإن دُعي الدرزي فإن دعوته ستكون بناء علي هويته الطائفية، وإن دُعي السني بدلاً عنه فسوف تكون دعوته بناء علي هوية المرحلة واللجنة التي ينتمي معظم أعضائها إلى الإسلام الجهادي والسياسي المتبني حالياً مظلومية سنية، محقة إلى حد كبير، لكنها لا تبني وطنا، بل هي في الحقيقة تساهم مساهمة فعلية في تكريس طبقات جديدة من الخراب في بنيته المجتمعية.
كما أن الوطنية التي تحدث عنها عضو اللجنة ينبغي أن يكون لها معايير محددة لم يتحدث عنها؛ فمثلاً هل الوطنية تتمثل في عدد المنشورات التي يكتبها الشخص تمجيداً بالهيئة على وسائل التواصل؟ أم هي موقفه المعلن السابق ضد نظام الأسد مع الثورة؟ في هذه الحال كيف سوف يتم اعتبار السوريين الذين لم يغادروا سوريا، وهم أكثر من إحدى عشر مليون شخص، وطنيين، حين كان أي انتقاد للنظام أو إعلان موقف مؤيد للثورة عقوبته الاعتقال والتصفية كما حدث مع مئات الآلاف من السوريينَ! هل هؤلاء مثلاً أقل وطنية ممن استغل الثورة ليلجأ إلى بلدان اللجوء وتظهر شجاعته هناك بينما كان يرتعد خوفاً من وضع علامة إعجاب على أي منشور لشخص يكتب ضد النظام خشية العقاب قبل مغادرته سوريا؟ هل مثلاً ياسين الحاج صالح الذي انتقد الأسد أثناء وجوده في سوريا وينتقد الإسلاميين حتى اللحظة ويتعرض يومياً لأنواع مقرفة ومرعبة من التشبيح الديني هو أقل وطنية من صحفي طائفي يعيش في فرنسا ويحرض يومياً على الأقليات والأكراد ويدعوا لنبذهم ومحاكمتهم ككتل متجانسة بدل المطالبة بعدالة انتقالية تعاقب المجرم من أي طائفة كانت ويتلقى مدائح يومية من غوغاء طائفيين لأنه ينطق عن الهوى الذي يميلون إليه؟
لاقى منشوري إياه عدداً كبيراً من التعليقات كان أغربها لي قول أحدهم أنني يجب أن أطالب العلويين بالابتعاد عن السياسة لمدة عشرة أعوام علي الأقل احتراماً للأكثرية، ورغم أن منشوري كان عن الحوار الوطني لا عن العمل السياسي، إلا أن التعليق إياه هو فكرة متداولة بشكل كثيف لدى الأكثرية السنية الافتراضية السورية، التي استنفرت كلها حين أعلن الفنان جمال سليمان عن احتمال ترشحه لمنصب الرئيس حين تسنح الفرصة لهذا.
لم يغفر هؤلاء لجمال سليمان رغبته في منصب يفترض أنه يجب أن يكون من حق أي مواطن سوري؛ ذريعة هؤلاء أن العلويين ارتكبوا مجازر مهولة بالسنة وجمال سليمان علوي وبالتالي فهو سوف يرتكب نفس المجازر. هذا المنطق الذرائعي لتورية الهوية الطائفية المعادلة لهوية شبيحة الأسد الطائفية، هو من يراد له أن يحكم سوريا الجديدة. وهو للأسف، منطق يعتمده مثقفون وليس فقط ذباب إلكتروني يعمل ضمن حملات منظمة. هذا المنطق لا يقترب قيد أنملة من المواطنة التي يطالب بها هؤلاء أنفسهم، إذ يبدو أن المواطنة تقف عند العلويين الذين يتم التعامل معهم بوصفهم كتلة واحدة متجانسة يحاجج كثيرون أن كل هذه الكتلة شاركت في القتل وكلها مجرمون رجالاً ونساء.
طبعاً من العبث مناقشه هؤلاء أو محاولة الحوار معهم، فمجرد عرض فكرة مناقضة سوف تكون تهمة (الفلول) جاهزة، وما أدراكم ما تهمة الفلول حالياً، ذلك أن صاحبها سوف يتعرض ليس فقط للشتائم بل للتهديد العلني. وهنالك عدة حوادث قتل حصلت في سوريا أخيراً بسبب هذه التهمة دون أدلة مثبتة. وإذا كنت فلول علماني فسوف تحظى بتهمة أخرى هي محاربة الإسلام وبالتالي محاولة إفشال تجربة الهيئة إرضاء للغرب (طبعاً الغرب كله يدعم الهيئة ورئيسها أحمد الشرع).
يتعرض السنة الذين ينتقدون الهيئة حالياً لموجات من التشبيح المقرفة أكثر مما يتعرض لها العلويون والأكراد، ذلك أن فكرة الكتل المتجانسة تجعل من السني المنتقد يفكر خارج الصندوق الموضوع لمعايير الوطنية وهي معايير طائفية دون جدال: أنت سني إذا أنت حتماً عليك أن تكون مع مشروع الهيئة والدولة الإسلامية فإن خرجت عنه فتستحق كل أنواع التشهير والشتائم والاقصاء، يذكر هذا ببدايات الثورة حين كان معيار الوطنية هو صندوق النظام وشبيحته وكل علوي يخرج عن هذا الصندوق ويعلن تأييداً مبطناً للثورة فسوف يتعرض لموجات لا تنتهي من الشتائم والتخوين والمقاطعة والإقصاء، أما صاحب الموقف الواضح والمعلن فتهديدات القتل سوف تضاف لكل ما سبق.
في الحالتين لا وجود للهوية السورية أو هوية المواطنة، بينما يتم الإعلاء من شأن الهوية الطائفية التي توهم أصحابها أنهم مواطنون درجة أولى، ظن العلويون هذا سابقاً وتعاملوا معه بوصفه حقيقة، وهاهم السنة يتعاملون بذات الذهنية حالياً، وطبعاً في كلا الحالتين الحديث عن داعمي نظام الأسد وداعمي مشروع الدولة الإسلامية الذي يعتقد كثر أن أحمد الشرع قادم ليحييه.
لنعترف أن سوريا اليوم أمام معضلة كبيرة لن تنجو منها سوي بمعجزة. لا يوجد ثقة لدى كثر من مكونات السوريين بالهيئة ولا بتاريخها الجهادي خصوصاً مع تعيين جهاديين غير سوريين في مناصب عسكرية كبيرة، وعدم تخلي الكثير منهم عن فكرهم الجهادي الذي لا يتناسب مع تركيبة المجتمع السوري.
انعدام الثقة هذا تعززه انتهاكات كبيرة تقوم بها فصائل طائفية، مترافقة مع خطاب تحريضي طائفي يملأ السوشال ميديا تقدمه مواقع وصفحات مشبوهة جدا لكنها قادرة على بث الرعب لدى العلويين تحديداً، ولدى باقي الأقليات. ولم تستطع اللجنة المعينة بصياغة مؤتمر الحوار الوطني أن تطمئن حتى المعتدلين، فعناصرها هم مجموعة من منظري الفكر الجهادي والإسلامي ممن لا يعرفون شيئاً عن المجتمع السوري وتنوعه ومتغيراته خلال السنوات الماضية كلها.
الإقصاء والتهميش لصالح فئة واحدة هو ما يتحدث عنه الكثيرون اليوم في سوريا ويخافون منه؛ الخوف أيضاً من القتل والإبادة، هذا الخوف الذي يعززه سوء الأوضاع المعيشية وانعدام تام للخدمات وعدم وجود آليات حقيقية للعدالة الانتقالية والانفلات الأمني الذي زاده هروب المجرمين من السجون عند فتح المعتقلات والسجون بعد هروب الأسد، وعدم قدرة الهيئة على تغطية كافة مناطق سوريا أمنياً، والتسريحات التعسفية غير المدروسة للكثير من العاملين والموظفين في المؤسسات الحكومية، وعدم صرف مرتبات المتقاعدين حتى اللحظة.
هذه كلها تجعل الثقة بين المواطن والسلطة الجديدة شبه مفقودة يضاف إلى ذلك الذاكرة الجمعية التي عززها نظام الأسد والإعلام ضد الإسلاميين وجبهة النصرة والجولاني تحديداً، مع الارتكابات التي ارتكبتها كل الفصائل الجهادية ضد السوريين خلال حرب العقد الماضي بعد 2011.
المعضلة إذاً كبيرة جداً وتحتاج جهوداً جبارة لتجاوزها، لا يبدو أن المعينين كلجنة تحضيرية لمؤتمر الحوار قادرين على تجاوزها، فمن يثق بهم هم أصحاب ذات الأيديولوجيا التي ينتمون إليها من بين السوريين، وهؤلاء ليسوا بكثر مهما تم الادعاء بغير ذلك. إذ ليس من المنطق أو من الواقع بمكان اعتبار كل سني سوري يحمل ذات الفكر كما يحاول البعض الترويج. أما باقي السوريين فليس أمامهم سوى الانتظار لرؤية مخرجات المؤتمر المزمع عقده وآليات الدعوات إليه قبلاً ثم ما سيؤول إليه الدستور الجديد الذي وحده سوف يحدد شكل سوريا القادمة، دولة قانون ومواطنة مدنية ثم دولة إسلامية تقودها فصائل جهادية متناحرة.