شكل سقوط النظام السوري السابق ضربة موجعة لحليفيه الرئيسيين، روسيا وإيران، ليس فقط على مستوى النفوذ السياسي والعسكري، بل امتد التأثير إلى الاقتصاد والمال. ويبرز التساؤل الأبرز حالياً: ما مصير الديون التي راكمها نظام الأسد طيلة 14 عاماً؟ هل ستتحملها الإدارة السورية الجديدة، أم سقطت بسقوط النظام؟
حجم الديون المترتبة على سوريا
كشفت وثيقة سرية مسربة من مؤسسة الرئاسة الإيرانية عن وجود ديون مستحقة لإيران على سوريا تقدر بنحو 50 مليار دولار، فيما لم يُكشف رسمياً عن حجم الديون الروسية، إلا أن بعض التقديرات تشير إلى أنها تبلغ نحو 17 مليار دولار.
وكانت هذه الديون جزءاً من اتفاقيات وقعها الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد مع طهران وموسكو، شملت قطاعات النفط والفوسفات واستثمارات طويلة الأمد، مثل تأجير مرفأ طرطوس لروسيا لمدة 49 عاماً قابلة للتجديد، بالإضافة إلى توقيع 126 اتفاقية مع إيران بين عامي 2011 و2024 في المجالات الاقتصادية والأمنية والعسكرية.
وبعد سقوط النظام، أعلنت وزارة الخارجية الإيرانية أن الإدارة السورية الجديدة ستتحمل هذه الديون وفقاً لاتفاقيات ومعاهدات تستند إلى مبدأ “خلافة الدولة”، وهو مبدأ قانوني معتمد في القانون الدولي، بحسب ما أكدت طهران.
اقرأ أيضاً: من التبعية إلى المصالح المشتركة.. سوريا تضع شروطها لروسيا
هل يمكن إسقاط هذه الديون؟
يطرح الخبراء القانونيون تساؤلات حول قانونية هذه الديون وإمكانية التنصل منها. وفي هذا السياق، يرى المحامي والمستشار القانوني غزوان قرنفل، المقيم في تركيا، أن “الديون التي رتبها النظام السابق خلال الصراع يمكن تصنيفها كديون كريهة (أو بغيضة)، ما يعني أن السلطات الجديدة يمكنها الامتناع عن سدادها”.
ويضيف قرنفل، في تصريح خاص لموقع “963+”: “الديون الكريهة هي تلك التي ترتبها سلطة مطعون في شرعيتها وتستخدمها لتمويل عملياتها الحربية ضد شعبها”. ويعود هذا المفهوم إلى عام 1927، حيث صاغه الفقيه القانوني الروسي ألكسندر ناحوم ساك، والذي ينص على أن أي قرض حصل عليه نظام استبدادي، ولم يكن الهدف منه خدمة مصالح الدولة، فإنه يعد ديناً كريهاً يسقط بسقوط النظام.
وفي السياق ذاته، يوضح الدكتور مسعود إبراهيم حسن، الباحث في الشأن الإيراني، لـ”963+” أن “القانون الدولي ينظر إلى الأموال المقترضة التي تُستخدم في الحروب الأهلية أو النزاعات الداخلية على أنها تفاقم معاناة الشعب، وبالتالي يمكن اعتبارها غير شرعية”.
وفي سياق متصل، يرى قرنفل أن الإدارة السورية الجديدة يمكنها اللجوء إلى المحاكم الدولية لمطالبة موسكو وطهران بتعويضات مالية، مشيراً إلى إمكانية طلب “الحجز على أموالهما في المصارف الخارجية كضمان لمطالب الجهة المدعية”.
وكشفت مصادر مقربة من الإدارة الجديدة أن السلطات السورية بصدد إعداد مذكرة للمحاكم الدولية تطالب فيها إيران بدفع 300 مليار دولار، تعويضاً عن “الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية السورية نتيجة دعمها العسكري لنظام الأسد”.
ضغوط سياسية محتملة
من جانبه، يشير الخبير في القانون الدولي، إبراهيم العلبي، إلى أن الاتفاقيات الموقعة بين سوريا وإيران وروسيا لا يمكن إلغاؤها بسهولة، قائلاً لـ”963+”: “الاتفاقيات بين الدول تظل قائمة بغض النظر عن التغيرات في الحكومات”.
ويحذر العلبي من أن ملف الديون قد يتحول إلى أداة ضغط تستخدمها الدول الدائنة ضد السلطة السورية الجديدة، خاصة أنها لم تحصل بعد على شرعية واعتراف دولي كامل، مشيراً إلى أن “إيران وروسيا يمكنهما اللجوء إلى المحاكم الدولية وتجميد الأصول السورية في الخارج لضمان استيفاء الديون المستحقة”.
كما يلفت العلبي إلى أن إيران قد تلجأ إلى تبرير ديونها عبر القول إن “النفط والمواد التي زودت بها سوريا كانت لأغراض استهلاكية وليس لدعم المجهود الحربي، وهو ما قد تستخدمه كورقة في المحاكم الدولية”.
أما الدكتور خالد الشمري، المختص في القانون الدولي والمقيم في واشنطن، فيرى في تصريحات لـ”963+” أن “إيران قد تجد نفسها أمام خيارات محدودة لاستعادة ديونها إذا رفضت الإدارة الجديدة الاعتراف بها، خاصة إذا لم تكن هذه الديون مسجلة ضمن التزامات مالية دولية”.
اقرأ أيضاً: هل ينجح مشروع ‘‘مارشال’’ جديد في إنقاذ سوريا؟
استرداد الاستثمارات بدلاً من الديون؟
بما أن جزءاً كبيراً من الدعم الإيراني للنظام السوري لم يكن في شكل قروض مباشرة بل على هيئة مساعدات اقتصادية وعسكرية، فإن إيران قد تحاول استعادة بعض استثماراتها، لا سيما في مناجم الفوسفات وميناء اللاذقية، وفقاً لما يشير إليه الشمري.
كما يرجح أن تلجأ طهران إلى “ممارسة ضغوط ديبلوماسية أو الاستفادة من نفوذها داخل سوريا لضمان استعادة جزء من أموالها”. ويضيف الشمري: “إذا جاءت الإدارة الجديدة نتيجة لتسوية سياسية تشمل شخصيات من النظام السابق، فقد يكون هناك قبول بسداد جزء من الديون للحفاظ على الاستقرار، إلا أن هذا السيناريو يبدو مستبعداً في ظل التوجهات الحالية”.
في المقابل، يستبعد الباحث مسعود إبراهيم حسن، في تصريحات لـ”963+” قدرة إيران على استرداد ديونها، مشيراً إلى أن “إيران لم تتمكن حتى الآن من استعادة مطالباتها بتعويضات تصل إلى تريليون دولار عن الحرب مع العراق في عهد صدام حسين”.
ويبقى مصير ملف الديون الخارجية لسوريا معلقاً بمدى التغيرات السياسية التي ستشهدها البلاد وطبيعة علاقاتها مع الدول الدائنة. فبين مساعي موسكو وطهران لاسترداد مستحقاتهما وبين توجهات الحكومة الجديدة في دمشق للتنصل من تلك الالتزامات، سيظل هذا الملف واحداً من أبرز القضايا الاقتصادية والسياسية في مستقبل سوريا.