بعد سقوط النظام السوري السابق، تواجه الإدارة السورية الانتقالية تحديات جسيمة، تتصدرها مسألة إعادة الإعمار، حيث يُنظر إلى هذه المرحلة على أنها المفتاح الأساسي لمستقبل الدولة. ويرى مراقبون واقتصاديون أن النجاح في تجاوز هذه العقبة يعتمد على الاستفادة من التجارب الدولية السابقة، وعلى رأسها مشروع “مارشال”، الذي ساهم في إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن، هل يمكن تكرار هذا النموذج في سوريا التي تعاني من تعقيدات سياسية واقتصادية كبرى؟
“مارشال” هو خطة اقتصادية أطلقها وزير الخارجية الأميركي جورج مارشال عام 1947 لمساعدة الدول الأوروبية على إعادة إعمارها بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك عبر تقديم مساعدات مالية ضخمة بهدف تحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي، ومنع انتشار الشيوعية خلال الحرب الباردة.
في سوريا، تتشابه التحديات من حيث حجم الدمار والحاجة إلى إعادة البناء، وإن كانت الأسباب مختلفة. ووفقاً لدراسة حديثة صادرة عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)، فإن تكلفة إعادة إعمار سوريا تُقدَّر بما بين 250 و400 مليار دولار، فيما انكمش الناتج المحلي الإجمالي السوري بنسبة 64% منذ عام 2011.
تحديات تطبيق مشروع “مارشال” في سوريا
يؤكد الخبير الاقتصادي الدكتور محمد فؤاد، في تصريحات خاصة لموقع “963+، أن إعادة بناء سوريا يمثل مشروعاً استراتيجياً يحتاج إلى خطط مدروسة تستفيد من التجارب الدولية الناجحة، ومنها خطة “مارشال”.
ومع ذلك، يرى فؤاد أن تطبيق الخطة في سوريا قد يواجه عقبات كبرى، حيث إن الوضع الأمني والسياسي غير المستقر “يجعل من الصعب تنفيذ خطة إعادة بناء شاملة”. كما أن العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد تشكل عائقاً كبيراً، إضافة إلى غياب بيئة قانونية شفافة تضمن استثمار الأموال بالشكل الصحيح، وعدم وجود حكومة قوية قادرة على إدارة المساعدات بفعالية.
ويشدد الخبير الاقتصادي، على أن نجاح عملية إعادة الإعمار يتطلب تحقيق عدة شروط أساسية، حيث ينبغي أن يكون هناك وقف شامل ودائم لإطلاق النار، إضافة إلى حل سياسي يرضي جميع الأطراف. كما تحتاج سوريا إلى إصلاحات اقتصادية وإدارية داخلية، إلى جانب ضرورة استغلال الموارد الزراعية والنفطية بشفافية وحوكمة رشيدة.
وفي هذا السياق، يرى فؤاد أن دعوة وزير الخارجية اللبناني عبد الله بو حبيب لتبني خطة عربية شاملة على غرار “مارشال”، قد تكون خطوة أولى نحو رؤية عربية موحدة لتحقيق التنمية والاستقرار.
هل تقود السعودية مشروع “مارشال” السوري؟
يرى الدكتور رفعت عامر، الباحث في الاقتصاد الدولي والتنمية المستدامة بجامعة “أوربو” السويدية، أن تنفيذ مشروع “مارشال” في سوريا لن يكون ممكناً دون إنشاء أنظمة دستورية وقانونية متينة، إلى جانب قضاء مستقل ومحاكم تجارية مستقلة.
وأضاف عامر لموقع “963+” أن “نجاح إعادة الإعمار يتطلب وجود نظام استثمار جاذب، ونظام مالي ومصرفي شفاف، وإصلاحات ضريبية وجمركية تسهم في تدفق رؤوس الأموال والشركات”.
ويعتبر عامر أن السعودية هي المرشح الأبرز لقيادة جهود إعادة الإعمار، خاصة إذا تمكنت الحكومة الانتقالية من تشكيل مجلس تشريعي يضم كفاءات قادرة على إدارة المشروع بفعالية. ويعزو ذلك إلى رغبة السعودية في إبعاد النفوذ الإيراني عن المنطقة، وخاصة في سوريا، إضافة إلى سعيها لقيادة مشاريع التنمية والسلام الإقليمي، وامتلاكها نفوذاً عالمياً قد يمكنها من تسوية ملفات العقوبات المفروضة على سوريا.
ولكن، في المقابل، يواجه الدور السعودي تحديات، أبرزها المنافسة التركية على ملف إعادة الإعمار، وسعي أنقرة لفرض وصايتها على القرار السوري، إلى جانب المخاوف من انتشار تيارات الإسلام السياسي وتأثيرها على استقرار المنطقة.
رؤية عربية لمستقبل سوريا
يؤكد رئيس مركز الدراسات والإعلام الإنساني، محمد المقرمي، المقيم في الرياض، أن الدعم الاقتصادي العربي بقيادة السعودية سيكون “أفضل من خطة مارشال”، موضحاً أن العلاقات العربية تقوم على روابط الأخوة المشتركة، وليس المصالح الاقتصادية البحتة كما كان الحال بين أوروبا والولايات المتحدة.
وأشار المقرمي في تصريحات خاصة لـ”963+” إلى أن الدول العربية، بقيادة السعودية، بدأت بالفعل بتقديم دعم ملموس لسوريا عبر المساعدات الإنسانية والمبادرات الاقتصادية، مثل الجسر الجوي والبري المتواصل من المملكة، فضلاً عن حملات الإغاثة الطبية التي ينفذها مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية.
وأكد المقرمي أن بلاده تقود جهوداً ديبلوماسية مكثفة لرفع العقوبات عن سوريا، لافتاً إلى أن هذه التحركات بدأت تؤتي ثمارها، حيث أبدت بعض الدول الغربية استعدادها لتخفيف العقوبات بهدف مساعدة سوريا على التعافي الاقتصادي.
في حين أبدى المقرمي تفاؤله بقدرة سوريا على النهوض مجدداً بفضل دعم الدول العربية، شدد الدكتور فؤاد على أن التفاؤل وحده لا يكفي، بل تحتاج سوريا إلى استراتيجية تنموية شاملة لإعادة دمجها في الاقتصاد العالمي، ومحاربة الفساد، وكسر شبكات التهريب والابتزاز التي نشأت في ظل غياب الحكم الفعّال.
ويبقى نجاح إعادة إعمار سوريا مرهوناً بمدى قدرة الأطراف المحلية والإقليمية على تجاوز العقبات السياسية والأمنية، وخلق بيئة قانونية واستثمارية جاذبة، لتتحول البلاد من ساحة صراع إلى نموذج تنموي ناجح في المنطقة.