في خطوة مهمة تمثل نقطة تحول في العلاقات السورية الدولية، تم تجديد عقد تشغيل محطة الحاويات في مرفأ اللاذقية مع الشركة الفرنسية “CMA CGM”، مما يثير تساؤلات حول تداعيات هذا الاتفاق في ظل استمرار العقوبات الأوروبية على سوريا. وفي نفس السياق، تلقى رئيس الإدارة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع، دعوة من نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون لزيارة فرنسا، مما يفتح أفقًاً جديداً للعلاقات بين البلدين، بعد سنوات من التوترات، بحسب ما رأى محللون.
وعقدت الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية في سوريا اجتماعا مع شركة “CMA CGM” الفرنسية، المشغلة لمحطة الحاويات في مرفأ اللاذقية. الاجتماع الذي تم توقيعه في الأيام الأخيرة من شهر كانون الثاني/ يناير 2025 شهد توافقاً على إبرام عقد جديد لتشغيل المحطة، في خطوة تستهدف تحسين وتطوير العمليات اللوجستية في هذا المرفأ الاستراتيجي.
وقد أكد البيان الصادر عن الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية أن الاجتماع شهد الاتفاق على تصفية الذمم السابقة المترتبة بين الجانبين طوال العقد الماضي، مع التأكيد على ضرورة تفعيل “شروط وآليات جديدة” لتحسين التشغيل في المستقبل. البيان ذكر أن تمثيل الجانب السوري في الاجتماع كان من قبل رئيس الهيئة، قتيبة بدوي، بينما مثل شركة “CMA CGM” جوزيف دقاق، المدير الإقليمي للشركة في منطقة الشرق الأوسط.
انتقادات اقتصادية لتجديد العقد
على الرغم من أهمية هذا التطور في قطاع النقل البحري في سوريا، إلا أن هذا القرار قد أثار العديد من التساؤلات بشأن استمرارية التعاون مع الشركة الفرنسية في ظل الظروف الاقتصادية والسياسية الحالية. فقد أعرب الخبير الاقتصادي أحمد ياسين عن استغرابه من قرار الإدارة السورية الانتقالية بتجديد عقد تشغيل مرفأ اللاذقية مع الشركة الفرنسية، في وقت تستمر فيه العقوبات الأوروبية المفروضة على سوريا.
وشدد على أن هذا القرار “كان من الأجدر ربطه برفع العقوبات بشكل كامل، خاصة في ظل انتهاء النظام السابق، مما كان يمكن أن يُسهم في تحفيز الاقتصاد السوري بشكل أكبر”.
وذهب ياسين إلى أبعد من ذلك، مشيراً في تصريحات لموقع “963+” إلى أن “التوقيع على هذا العقد، الذي جرى لأول مرة في عام 2009 في عهد النظام السابق، يعكس استمرار ارتباط مرفأ اللاذقية بشركة تخضع لقوانين الاتحاد الأوروبي”.
وأضاف أن “مثل هذا التوجه قد يثير العديد من المخاوف بسبب السمعة السيئة التي ارتبطت بالعقود السابقة، والتي غالباً ما كانت تحمل بصمات الفساد”. ورأى الخبير الاقتصادي أنه كان من الأجدر “البحث عن شركات أخرى أكثر تنافسية، أو على الأقل التفاوض مع شركات دولية تكون بعيدة عن التبعات السياسية للعقوبات”.
أما عن الآفاق المستقبلية لمرفأ اللاذقية، فقد شدد ياسين على ضرورة التفاوض مع “الشركات الصينية الكبرى”، التي تعد واحدة من القوى الاقتصادية الكبرى في العالم، خاصة في ضوء محاولات الصين تعزيز حضورها في منطقة البحر الأبيض المتوسط. “هذا التوجه سيمنح مرفأ اللاذقية فرصة كبيرة للتنافس مع الموانئ القبرصية واليونانية”، الأمر الذي قد يساهم في زيادة القدرة التنافسية للميناء على الصعيد الدولي.
وأكد ياسين أن “تجديد العقد مع الشركة الفرنسية في ظل العقوبات الأوروبية الحالية سيؤدي إلى تقليص القدرة التنافسية لمرفأ اللاذقية، مما يطرح تساؤلات كبيرة حول جدوى هذه الاتفاقية في الوقت الراهن”.
موقف قانوني رسمي بشأن العقود الدولية
في الوقت الذي تبقى فيه القضايا الاقتصادية تثير الحيرة، فقد أكد أستاذ القانون الدولي، عمر العكور، في تصريحات لـ”963+” أن “أي دولة ذات سيادة لديها الحق الكامل في إبرام العقود التي تراها مناسبة، طالما أن هذه العقود لا تتعارض مع مصالحها الوطنية”.
وأضاف العكور أن “العقود التي يتم إبرامها يجب أن تتضمن آليات واضحة لحل النزاعات التي قد تطرأ أثناء تنفيذ العقد، وهو ما يجب أن يتم أخذه في عين الاعتبار من قبل الطرفين السوري والفرنسي”.
دعوة الرئيس السوري من فرنسا
من جهة أخرى، وعلى الصعيد السياسي، أعلن مكتب الشرع، عن تلقيه دعوة رسمية من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لزيارة فرنسا في الأسابيع المقبلة. وبحسب البيان الصادر عن مكتب الشرع، فقد تم التباحث خلال المكالمة الهاتفية التي جرت بين الرئيسين، حول العقوبات الاقتصادية المفروضة على الشعب السوري، بالإضافة إلى الأوضاع الأمنية في سوريا وضرورة العمل المشترك في الحفاظ على الاستقرار. وأشاد الرئيس ماكرون بمواقف سوريا في عملية “تحرير البلاد” مشيراً إلى أن فرنسا تساند “المرحلة الانتقالية” السورية.
وقال ماكرون خلال الاتصال: “نؤكد دعمنا الكامل للمرحلة الانتقالية في سوريا، ونسعى جاهدين لرفع العقوبات الاقتصادية بشكل تدريجي”، في خطوة تهدف إلى “فتح المجال أمام فرص النمو والتعافي” في سوريا. من جانبه، شكر الشرع، ماكرون على هذه المكالمة وأكد على أن بلاده ستظل جزءاً فاعلاً في المنطقة، وتشارك شركاءها الهواجس الأمنية، مشيراً إلى أن سوريا تركز على استقرارها وسلامة أراضيها.
“زيارة قد تفتح أفقاً جديداً للعلاقات الأوروبية”
بدوره، أشار الباحث في الفلسفة السياسية رامي العلي، إلى أن دعوة ماكرون للرئيس الشرع، “لا تعكس تحولاً جوهرياً في الموقف الفرنسي تجاه سوريا، بل هي استمرار للتوجه الفرنسي الذي بدأ منذ سقوط النظام السابق حيث كانت فرنسا حريصة على الاتصال مع الإدارة السورية الجديدة، مشيراً إلى أن فرنسا وألمانيا هما من أبرز دولتين في الاتحاد الأوروبي اللتين تعبران عن الموقف الأوروبي تجاه سوريا.
وأوضح العلي في تصريحات لـ”963+” أن فرنسا، من خلال هذه الدعوة، “تعكس خصوصية في التعامل مع الملف السوري، حيث تسعى لتعزيز مصالحها في المنطقة، لاسيما فيما يتعلق بالعلاقة مع الأحزاب الكردية وملفات سوريا-لبنان”.
ولفت إلى أن الزيارة “قد تشكل بوابة لإعادة العلاقات السورية مع الدول الأوروبية، خاصةً بعد التدهور الكبير الذي شهدته تلك العلاقات في الأعوام الـ14 الماضية، بما في ذلك سحب عدد كبير من السفارات الأوروبية من دمشق”.
كما أشار العلي إلى أن هذه الزيارة “قد تفتح المجال للتعاون في مجالات عدة، بما في ذلك التعاون الأمني وملف اللاجئين السوريين”. وأضاف أنه “من الممكن أن تؤدي الزيارة إلى خطوة نحو تخفيف العقوبات الأوروبية المفروضة على سوريا، بشرط أن تشهد الساحة السياسية السورية تقدماً ملموساً، مثل عملية انتقال سياسي واضحة وإجراء حوار وطني يشمل جميع الأطراف السورية”.
ويجمع محللون على أن التحركات الأخيرة في مرفأ اللاذقية، بالإضافة إلى الدعوة الفرنسية للرئيس السوري، تسلط الضوء على “تحولات سياسية واقتصادية هامة” في سوريا. ورغم وجود بعض الانتقادات الداخلية والخارجية بشأن استمرار التعاون مع الشركات الأوروبية في ظل العقوبات، “إلا أن التحركات الجديدة تمثل محاولة لإعادة ترتيب العلاقات السورية مع دول العالم، خاصة الدول الأوروبية التي قد تشهد تغييراً في موقفها تجاه سوريا في المستقبل القريب.