استقبلت سوريا خلال الفترة الأخيرة العديد من الطائرات الإغاثية التي حملت مواد غذائية وإيوائية وطبية، ضمن الجسر الجوي الذي نفذته بعض الدول العربية خلال الأيام الفائتة. بيد أن خطوة تنصيب السيد أحمد الشرع رئيساً لسوريا عززت توجه الدول العربية نحو دعم البلاد اقتصاديًا، للمساهمة في إعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار الاقتصادي.
إلى ذلك، شهدت دمشق نشاطاً ديبلوماسياً مكثفاً، حيث زارت وفود من السعودية وقطر والأردن العاصمة السورية للتشاور حول مستقبل البلاد، بمستويات سياسية مختلفة، وصلت إلى استقبال السيد أحمد الشرع أمير دولة قطر كأول رئيس لدولة عربية في دمشق.
وفي السياق ذاته، وخلال مقابلة مع قناة “العربية”، أشار أحمد الشرع إلى أن السعودية ستلعب دوراً كبيراً في مستقبل سوريا، مؤكداً وجود فرص استثمارية كبيرة للدول المجاورة، بما في ذلك السعودية. كما أشاد بالتصريحات الإيجابية من الرياض تجاه دمشق.
من جانبها، دعت مصر إلى حشد الدعم الإقليمي والدولي لسوريا خلال المرحلة الانتقالية، مؤكدة ضرورة تكاتف الجهود لاستعادة الاستقرار في البلاد. كما قدّم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي التهنئة للشرع بمناسبة تنصيبه رئيساً للبلاد.
ومن المتوقع أن يشمل الدعم العربي تقديم مساعدات مالية واستثمارات في مجالات البنية التحتية والطاقة والزراعة، بالإضافة إلى دعم المبادرات التي تعزز الاستقرار السياسي والاجتماعي في سوريا. هذا التعاون العربي سيساهم في تسريع عملية التعافي الاقتصادي ودمج سوريا مجدداً في محيطها الإقليمي.
دعم اقتصادي
وأكد الخبير الاقتصادي السوري، الدكتور عماد الدين المصبح، أن الدعم الاقتصادي العربي يشكل في المرحلة الراهنة منعطفاً حاسماً لسوريا، متجاوزاً الإغاثة الإنسانية المباشرة ليصبح ركيزة للتعافي الشامل وإعادة التموضع الإقليمي.
وأوضح المصبح، في حديث خاص لـ”963+”، أن هذا الدعم يبرز كضرورة استراتيجية لإعادة دمج سوريا في محيطها العربي وتحقيق الاستقرار الاقتصادي المنشود، في ظل التحديات الاقتصادية الجسيمة التي تواجهها البلاد.
وأشار الخبير الاقتصادي إلى أن الدعم العربي يأخذ أشكالاً متعددة، بدءاً من المساعدات العاجلة لتخفيف الأزمة المعيشية، مروراً بتعزيز التعاون التجاري وتنشيط التبادل البيني، وصولاً إلى الاستثمارات الاستراتيجية في القطاعات الحيوية.
ولفت إلى أن توجيه هذا الدعم نحو مشاريع إعادة الإعمار يمثل أولوية قصوى، نظراً للحاجة الملحة لإعادة بناء البنية التحتية المتهالكة، وقطاعات الإسكان والصحة والتعليم.
وفي هذا السياق، شدد المصبح على ضرورة إنشاء صناديق تمويل مشتركة بإدارة مؤسسات عربية مرموقة، لضمان استدامة التمويل وشفافيته. كما أكد أهمية تعزيز الاستثمارات المستدامة في القطاعات الإنتاجية، مثل الزراعة والصناعة والطاقة، بهدف إنعاش الاقتصاد السوري وتمكينه من تحقيق النمو الذاتي.
وأضاف المصبح أن دعم القطاع الخاص السوري من خلال شراكات مع مستثمرين عرب يعد ركيزة أساسية لخلق فرص عمل وتنشيط الدورة الاقتصادية المحلية. وفي إطار التكامل الإقليمي، اعتبر أن مشاريع الطاقة تمثل محوراً واعداً للتعاون بين سوريا والدول العربية، لا سيما في مجالات نقل الكهرباء والغاز، وهو ما يمكن أن يجعل سوريا ممراً إقليمياً للطاقة، يعزز التكامل الاقتصادي العربي ويكرّس دورها كشريك استراتيجي في تأمين احتياجات الطاقة للدول المجاورة.
وأشار الخبير الاقتصادي إلى أن إعادة تفعيل التجارة العربية البينية مع سوريا ستسهم في توفير السلع الأساسية بأسعار معقولة، ودعم الصادرات السورية، خاصة في القطاعات الزراعية والصناعية.
ومع توجه دمشق نحو اقتصاد أكثر انفتاحاً، أكد المصبح أن التحول نحو اقتصاد السوق الحر يستلزم إصلاحات هيكلية، تشمل تحرير السوق، وتعزيز المنافسة، وتقليل البيروقراطية، وتسهيل قوانين الاستثمار، مشددًا على دور الدول العربية في دعم هذا التحول من خلال توفير الدعم الفني والتقني، وتشجيع الشراكات مع القطاع الخاص السوري.
واختتم المصبح حديثه بالتأكيد على أن سوريا تمتلك مقومات تجعلها حلقة وصل إقليمية في مجال الطاقة، حيث تشكل مشاريع نقل الكهرباء وخطوط الغاز الإقليمية، إلى جانب الاستثمارات في الطاقة المتجددة، مجالات واعدة للتعاون العربي.
وأوضح أن الدعم الاقتصادي العربي لا يقتصر على البعد الاقتصادي فحسب، بل يحمل أبعادًا سياسية واستراتيجية تعكس رغبة الدول العربية في إعادة ربط سوريا بمحيطها وتعزيز التكامل الإقليمي.
وأكد أن هذا الدعم يمثل فرصة استراتيجية لسوريا لإعادة تموضعها في محيطها العربي، وبناء شراكات مستدامة، تمهيداً لمستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً للمنطقة بأسرها.
إعادة الاندماج
نحو ذلك، تشير الباحثة السعودية نورة السبيعي إلى أن تحوّل الأحداث في سوريا، بسقوط الأسد وظهور إدارة سورية جديدة تبدي رغبة واضحة في إعادة اندماجها مع محيطها العربي، هو لحظة ينبغي للدول العربية اغتنامها باعتبارها فرصة لا مثيل لها لتعزيز الدور العربي في مستقبل سوريا.
وتضيف السبيعي، الباحثة في الاقتصاد السياسي بمركز “رصانة” ومقره الرياض، حديثها لــ “963+” قائلة: “إن تقليل ما باتت تفرضه الأوضاع السورية من تحديات متنوعة إقليميًا، ما بين تدمير بنيتها التحتية الأساسية، والجفاف، ونزوح السكان، وغياب الاستقرار السياسي والأمني، وتوسع الاقتصاد غير الرسمي مدفوعًا بتهريب المخدرات، وخاصة مخدر الكبتاغون، لدول الجوار السوري، هو ضرورة ملحة”.
وفي ظل هذه المجموعة الواسعة من التحديات، ومحدودية قدرة الحكومة السورية الجديدة على التغلب عليها، لا سيما فيما يتعلق بمسائل إعادة الإعمار وترميم الاقتصاد بعد 13 عاماً من صراع مدمر ترك اقتصاد الدولة في حالة انهيار تام، فإن الدعم العربي سيكون لا غنى عنه لضمان عدم فشل سوريا مرة أخرى وزعزعة استقرار المنطقة. لذا، تقدر الباحثة السعودية أن المملكة العربية السعودية، على وجه الخصوص، تمتلك الموارد والرؤية الواضحة لتجاوز جزء كبير من هذه التحديات السورية.
ولربما يكون المسار السعودي في ذلك مبنياً على ركيزتين؛ الأولى تتعلق بمعالجة الأولويات العاجلة للحكومة والشعب السوري، وذلك من خلال تأمين المساعدات الإنسانية العاجلة، إلى جانب إطلاق صندوق لتمكين عودة وإعادة توطين ما يقرب من 7.2 مليون نازح داخلي وأكثر من ستة ملايين لاجئ. فيما تتعلق الركيزة الأخرى بمعالجة التحديات ذات الأبعاد طويلة الأجل، مثل حشد المجتمع الدولي وتجميع الأموال اللازمة لإعادة إعمار سوريا وإعادة تطويرها، بعد التدمير الهائل الذي طال أنظمة الصحة والتعليم والمياه والنقل والطاقة، إلى جانب القطاعات الإنتاجية.
وعموماً، والحديث للباحثة السعودية، تمثل رؤية المملكة العربية السعودية الطموحة لعام 2030 بأبعادها السياسية والثقافية والاقتصادية وغيرها، صيغة ملهمة ومؤثرة على مستوى الشرق الأوسط. وباتت العديد من الدول تراهن على محاكاة النموذج السعودي واستلهام بعض المبادئ التي تبنّتها السعودية كمصدر للتحفيز والدعم لتحقيق إصلاحات مشابهة في دولها في المجالات الاقتصادية والاجتماعية.
وأبدت الدولة السورية الجديدة بالفعل إعجاباً بالتجربة السعودية، وأظهرت رغبة في الاعتماد عليها والاسترشاد بها. ولربما يكون هناك نوع من التعاون في ذلك، والاستعانة بالخبرات السعودية في الإصلاح، وتسخير الإمكانيات والقدرات السورية الذاتية، بما في ذلك الموارد الطبيعية الكبيرة مثل النفط والغاز والفوسفات، لدعم عمليات ترميم الاقتصاد وتنويع روافده، وتجاوز التحديات التي تعيشها سوريا وحكومتها الجديدة.
وتختتم السبيعي، حديثها قائلة: “إن المملكة، بالمقابل، يهمها نهوض سوريا بشكل سليم، وبناء علاقات ترتكز إلى الثقة والمصالح المشتركة بين البلدين، وأن تستعيد سوريا استقرارها وقدرتها على لعب دورها العربي بعيدًا عن تصدير الأزمات واضطرابات الكبتاغون لجوارها الجغرافي”.
ضرورة حتمية
من جانبه، يقول الدكتور عمر الرداد، خبير قضايا الأمن الاستراتيجي، بخصوص مسارات الدعم العربي لسوريا في الأفق المنظور بعد التطورات الأخيرة وتسمية السيد أحمد الشرع رئيسًا: “يبدو للجميع أن سوريا بلد تعرض للكثير خلال حقبة زمنية تجاوزت عقداً من السنين، وهذا يجعل الجميع يتصور أن مرحلة إعادة الإعمار ضرورة حتمية”.
ويتابع الخبير الأردني الدكتور عمر الرداد حديثه لــ “963+” قائلاً: “إن سوريا تحتاج يقيناً لمساعدات إغاثية مباشرة وفتح آفاق جديدة لإعادة الإعمار في مختلف القطاعات، بما فيها البنى التحتية”.
ويلفت الرداد إلى أن العقوبات المفروضة على سوريا، بما فيها قانون “قيصر”، تشكل عائقاً أمام إعادة الإعمار وتحسين الأوضاع الاقتصادية. كما يشكل التقدم في تحقيق مصالحة وطنية، تؤسس لمرحلة انتقالية ومرورها بسلام، معياراً لمساعدة سوريا الجديدة.
إن الدول العربية، ومعها دول العالم، تعتقد، والحديث للخبير الأردني، أنها تبني مقارباتها في مساعدة سوريا على أساس حجم الإنجاز في تحقيق المتطلبات على الأرض، وفي مقدمتها رفض ومكافحة الإرهاب، وإنهاء الوجود والتأثير الإيراني والروسي، وصياغة دستور مدني يشارك فيه جميع مكونات الشعب السوري، ويتضمن احترام حقوق الإنسان، وتمثيل كافة الأطياف السورية، بما يؤسس لدولة مدنية حديثة تتعاون مع جيرانها ومحيطها، مع الحفاظ على وحدة سوريا.
وأضاف: “أعتقد أيضاً أن الدول العربية في غالبيتها ستعمل على مساعدة سوريا في كل ما تقدم وفقًا لمقاربة (الخطوة مقابل خطوة)، وهو ما تدركه القيادة السورية الجديدة، وينبغي أن يظهر للجميع في خطوات لاحقة”.
إلى ذلك، يؤكد محمد شمس الدين، كبير الباحثين بالمؤسسة الدولية للمعلومات، أن الدعم الأساسي من الدول العربية لسوريا الجديدة ينبغي أن يكون من خلال رفع العقوبات المفروضة بموجب قانون “قيصر”.
ويستطرد شمس الدين حديثه لــ “963+” قائلاً: “إن رفع العقوبات عن سوريا سيعمل على تهيئة المناخ للمستثمرين للدخول إلى البلاد والمساهمة في إطلاق ورشة إعادة الإعمار”.
وتذهب التقديرات إلى أن تكلفة التطوير تُقدّر بـ 400 مليار دولار، فضلاً عن الحاجات الأساسية، مثل توفير الخدمات، وخاصة الكهرباء والطاقة، وتعزيز القدرة الشرائية لليرة السورية، حيث إن “دولرة” الأسعار أنتجت حالة من العوز الشديد لدى قطاعات واسعة من المواطنين.
ويختتم محمد شمس الدين حديثه قائلاً: “إن التحول من الاقتصاد الموجه والمدعوم إلى الاقتصاد الحر يؤدي إلى تحولات كبيرة، تكون الطبقات الفقيرة أولى ضحاياها، لذا يبدو من الضرورة الاهتمام بهذه الطبقات، لأنها أساس الدولة وقاعدتها الصلبة”.
كما ينبغي أن يتبدل الحضور التركي العسكري والسياسي في سوريا، ليتركز على الشق الاجتماعي والاقتصادي، ويكون مكمّلًا للجهد العربي.