منذ اندلاع الحرب في عام 2011، تعرض الاقتصاد السوري لانكماش حاد أدى إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 64% مقارنة بما كان عليه قبل الأزمة، كما شهدت البلاد تراجعاً في قيمة الليرة السورية وارتفاعاً قياسياً في معدلات التضخم والفقر. اليوم، ومع محاولات الحكومة الجديدة لإصلاح الوضع الاقتصادي، تُطرح تساؤلات عديدة حول إمكانية تحقيق انتعاش حقيقي للاقتصاد المحلي في ظل التحديات الراهنة.
وفرضت العقوبات الدولية قيوداً مشددة على حركة رؤوس الأموال، مما أعاق العمليات المصرفية ومنع تدفق الاستثمارات الأجنبية. ويعتبر نقص الاحتياطي النقدي من أبرز التحديات التي تواجه النظام المالي السوري، حيث أدى إلى ضعف الثقة بالعملة الوطنية وزيادة التضخم بشكل غير مسبوق.
وكشف تقرير حكومي عن وجود نحو 400 ألف “موظف شبح” يتقاضون رواتب دون أداء مهام فعلية، ما أدى إلى استنزاف ميزانية الدولة وزيادة العبء على الاقتصاد. وتسعى الحكومة إلى إصلاح هذا الوضع عبر تسريح جزء من هؤلاء الموظفين وتحسين الأداء الحكومي.
وأدت الحرب إلى دمار واسع النطاق في قطاعات الطاقة، النقل، والصناعات التحويلية، مما أضعف القدرة الإنتاجية للبلاد. ويعتبر إعادة تأهيل هذه القطاعات خطوة أساسية في استعادة النشاط الاقتصادي.
الإصلاحات الاقتصادية المقترحة
أعلنت الإدارة السورية الجديدة عن نيتها تبني اقتصاد السوق الحرة بهدف تحرير الأنشطة الاقتصادية من القيود التقليدية. وأكد رجال الأعمال أن تحرير سعر الصرف وتبسيط الإجراءات الجمركية سيؤديان إلى تنشيط التجارة وتقليل التكاليف التشغيلية.
وتشمل الإصلاحات خصخصة العديد من الشركات الحكومية الخاسرة، مع تقليص عدد الموظفين في القطاع العام لضبط النفقات الحكومية. ومن المتوقع أن تسهم هذه الخطوات في دعم القطاع الخاص وتحفيز الاستثمارات.
ويُعتبر القطاع الزراعي ركيزة أساسية لتعزيز الأمن الغذائي، بينما يشكل القطاع الصناعي دعامة رئيسية للاقتصاد من خلال دعم الصادرات. أما القطاع السياحي، فيُعد مجالًا واعدًا لجذب الاستثمارات، خاصةً من السوريين المغتربين.
وتتجه الحكومة إلى رفع الدعم عن بعض السلع بشكل تدريجي لتقليل العجز المالي، مع إعادة هيكلة النظام المصرفي لضمان استقرار الأسواق المالية وجذب الاستثمارات.
ويمكن للدعم الدولي أن يلعب دوراً مهماً في إعادة الإعمار، سواء من خلال المساعدات المالية أو عبر تخفيف العقوبات المفروضة، مما سيؤدي إلى تسهيل حركة التجارة وجذب رؤوس الأموال.
“مشكلة حبس السيولة تحدٍ رئيسي أمام الإصلاحات“
أكد الخبير الاقتصادي منير علبي، المقيم في حلب، لموقع “963+” أن سوريا تشهد تحولات اقتصادية كبيرة، مشيراً إلى أن “أبرز المشكلات الراهنة هي حبس السيولة”، حيث لا يعني انخفاض سعر الدولار بالضرورة تحسن القدرة الشرائية للمواطنين. ولفت إلى أن “الإنتاج هو الذي يحدد سعر الصرف وليس توفر السيولة فقط”.
واقترح علبي تشكيل “شركات مساهمة محدودة المسؤولية، بحيث تبقى الدولة شريكاً فيها، مما سيساعد على تحسين الإدارة ودفع عجلة الإنتاج”.
من جانبه، أشار الخبير الاقتصادي إسلام شاهين، أستاذ الاقتصاد السياسي المقيم في مصر، إلى أن “إعادة بناء الاقتصاد السوري تحتاج إلى نموذج متكامل يشمل أبعاداً مالية وإدارية واجتماعية”.
واقترح شاهين في حديث لـ”963+”، “الاستفادة من تجارب دول مثل ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ومصر في إعادة بناء الاقتصاد، ورواندا التي ركزت على المصالحة الوطنية وجذب الاستثمارات، إضافةً إلى تجربة البوسنة والهرسك التي أعطت الأولوية لإصلاح القطاع العام”.
كما شدد شاهين على “ضرورة إصلاح النظام المصرفي وتعزيز الرقابة على البنوك”، مشيراً إلى أن “إعادة بناء الاقتصاد السوري لن تتحقق دون سياسة نقدية متوازنة للسيطرة على التضخم وضمان استقرار الليرة”.
ضرورة تبني برنامج طوارئ اقتصادي شامل
من جانبه، دعا الخبير الاقتصادي عماد الدين المصبح، إلى “تثبيت سعر الصرف عبر إجراءات نقدية حازمة وضخ العملة الأجنبية لوقف المضاربات”، بالتوازي مع “إعادة هيكلة القطاع المصرفي لاستعادة الثقة بالنظام المالي”. كما أكد أن “مكافحة الفساد وهدر المال العام من الأولويات القصوى لإعادة ضبط الاقتصاد”.
وأشار المصبح في تصريحات لـ”963+” إلى أن “جذب الاستثمارات يعد عاملاً حاسماً لتحقيق الانتعاش، ويتطلب تحسين البيئة القانونية والتنظيمية، إضافةً إلى توفير استقرار سياسي وأمني يعزز ثقة المستثمرين”.
كما أكد الخبير الاقتصادي على أهمية دور السوريين المغتربين في دعم الاقتصاد المحلي من خلال تحويلاتهم المالية، معتبراً أنها “ليست مجرد دعم مالي، بل استثمار في مستقبل سوريا”.
ويتطلب إنعاش الاقتصاد السوري جهوداً متكاملة تجمع بين الإصلاحات الداخلية والتعاون الدولي، إلى جانب تعزيز دور القطاع الخاص ودعم القطاعات الإنتاجية الحيوية. وبينما تبقى التحديات كبيرة، فإن تنسيق السياسات الاقتصادية والمالية، وإيجاد بيئة استثمارية مستقرة، قد يفتحان الباب أمام مستقبل اقتصادي أكثر إشراقاً لسوريا.