أثار إعلان الإدارة السورية الجديدة إلغاء اتفاقية الاستثمار الروسي في مرفأ طرطوس جدلاً واسعاً حول أبعاد القرار السياسية والاقتصادية، إضافة إلى مستقبل العلاقات السورية الروسية بعد عقود من التحالف الوثيق بين البلدين، خاصة بعد سقوط نظام بشار الأسد المخلوع، الذي حظي بدعم موسكو لسنوات.
وعقب إعلان القرار، زار نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، دمشق والتقى بقائد الإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، حيث وصف المحادثات بأنها “بناءة وإيجابية”، مؤكداً أن المنشآت الروسية في سوريا لم تتأثر، وأن الجانبين اتفقا على مواصلة الحوار. وفيما يخص إلغاء العقد بين الشركة الروسية والجانب السوري لاستخدام مرفأ طرطوس، أوضح بوغدانوف أن “هذه قضية فنية تجارية تتعلق بعمل شركتنا في المرفأ، وفي كل الأحوال فإن طرطوس بحاجة إلى تحديث ويمكن التفاهم لتسوية كل المشكلات”.
وكانت صحيفة “الوطن” السورية قد نقلت عن مدير إدارة جمارك محافظة طرطوس، رياض جودي، تأكيده على إلغاء العمل رسمياً باتفاقية الاستثمار الروسي في الميناء، وإعادة إيراداته بالكامل لمصلحة الدولة السورية، مع العمل على إعادة هيكلته وتشغيله بشكل كامل. من جهتها، ذكرت وكالة “تاس” الروسية أن الإدارة السورية الجديدة ألغت الاتفاقية من جانب واحد دون إخطار الشركة الروسية المستثمرة.
يشار إلى أن شركة “ستروي ترانس غاز” الروسية كانت قد وقعت في عام 2019 اتفاقية لاستثمار مرفأ طرطوس لمدة 49 عاماً، تنص على إدارة الجانب الروسي للميناء واستثمار 500 مليون دولار في تحديث بنيته التحتية.
اقرأ أيضاً: الإدارة السورية: بحثنا مع روسيا إعادة الإعمار والعدالة الانتقالية
المغزى السياسي ومشروعية القرار
يرى مدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، ديمتري بريجه، أن إلغاء اتفاقية مرفأ طرطوس يعكس نية الإدارة السورية الجديدة في مراجعة الاتفاقيات التي وُقعت خلال عهد الأسد المخلوع، خاصة تلك التي شابها “الفساد أو عدم الشفافية”.
ويضيف بريجه في تصريحات خاصة لموقع “963+” أن “القرار يعكس رغبة الإدارة الجديدة في فرض سيادتها على الموارد الوطنية والتخلص من العقود التي تم التفاوض عليها في ظروف غير متكافئة”.
بدوره، أكد الباحث الاقتصادي، خورشيد عليكا، أن “الاتفاقيات الدولية التي أبرمها النظام المخلوع إذا كانت لا تصب في مصلحة الشعب السوري، فيمكن اعتبارها غير دستورية، مما يمنح الإدارة الجديدة الحق في إلغائها”.
وأشار عليكا في تصريحات لـ”963+” إلى أن “ما فعلته الشركة الروسية كان منافياً لمبدأ السيادة الوطنية، حيث أدارت المرفأ بحرية مطلقة، ما أخرجه عن نطاق السيطرة السورية، مما يجعل فسخ العقد أمراً منطقياً”.
كما يرى عليكا أن إلغاء الاتفاقية يعكس رغبة الإدارة السورية الجديدة في عدم منح امتيازات إضافية لروسيا، مشيراً إلى أن الأخيرة كانت شريكاً أساسياً في دعم النظام السابق عسكرياً وسياسياً.
اقرأ أيضاً: اتفاقيات الأسد.. ترحيل إلى المؤقتة أم رحلت معه؟
وحول التداعيات الاقتصادية لإلغاء الاتفاقية، أوضح عليكا أن موسكو قد تلجأ إلى المحاكم الدولية للمطالبة بتعويضات مالية، وربما تقوم بالحجز على أصول سورية في الخارج المرتبطة بهذه الاتفاقيات.
من جانبه، حذّر أستاذ القانون الدولي، الدكتور محمد شاكر، في تصريحات لـ”963+” من أن “إلغاء الاتفاقية قد يؤثر سلباً على العاملين السوريين في المرفأ، حيث يعمل نحو ألف موظف في الشركة الروسية”، مؤكداً ضرورة إعادة توظيفهم ضمن الميناء لضمان استمرارهم في وظائفهم والاستفادة من خبراتهم.
مستوى التأثير على المشروعات الأخرى
يعتقد عليكا أن قرار إلغاء عقد مرفأ طرطوس “قد يشجع الإدارة السورية الجديدة على مراجعة العديد من الاتفاقيات الأخرى الموقعة مع روسيا وإيران، خصوصاً فيما يتعلق بالتنقيب عن النفط والغاز في البحر الأبيض المتوسط والبادية السورية، واستخراج الفوسفات”.
اقرأ أيضاً: رويترز: الإدارة السورية طالبت روسيا بتسليم بشار الأسد
في السياق ذاته، أشار بريجه إلى أن “القرار قد يؤثر على المشاريع الروسية الأخرى في سوريا، حيث سيتطلب ذلك إعادة تقييم العلاقات الاقتصادية بين البلدين، لا سيما في ظل التحديات التي تواجهها روسيا بسبب العقوبات الدولية وتراجع قدرتها على تمويل مشاريع خارجية”.
وحول طبيعة العلاقة بين موسكو ودمشق في المرحلة القادمة، أوضح بريجه أن زيارة الوفد الروسي لسوريا بعد إلغاء الاتفاقية تمثل “منعطفاً مهماً”، مشيراً إلى أن موسكو قد تتجه لتعزيز حضورها في مجالات أخرى مثل الطاقة وإعادة إعمار البنية التحتية.
وأضاف أن “روسيا تسعى لضمان استمرارية وجودها العسكري في سوريا من خلال قاعدتي حميميم وطرطوس، وهو أمر أساسي بالنسبة لموسكو”. في المقابل، أكد شاكر أن إلغاء اتفاقية المرفأ “لا يعني القطيعة الكاملة مع روسيا، بل إعادة تأطير العلاقة معها بما يضمن المصالح السورية بعيداً عن التبعية”.
وفي ظل مطالبات الاتحاد الأوروبي بإنهاء الوجود الروسي في سوريا وربط تخفيف العقوبات بمسار الإدارة السورية الجديدة، يرى شاكر أن القيادة السورية ستبقي على مستوى منخفض من العلاقات مع موسكو لضمان انفتاح الغرب على دمشق وتقديم الدعم لها.
وكانت قد أوضحت الإدارة السورية الجديدة في بيانها، أنها بحثت مع الوفد الروسي سبل إعادة بناء الثقة بين البلدين من خلال خطوات ملموسة مثل التعويضات وإعادة الإعمار، مؤكدة أن “استعادة العلاقات يجب أن تتم بناءً على احترام إرادة الشعب السوري وتصحيح أخطاء الماضي”. وفي ظل التحولات السياسية والاقتصادية الجارية، تبقى العلاقة بين دمشق وموسكو قيد التقييم في سياق التحولات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة.