سوريا من أكثر الدول تنوعاً من ناحية التركيبة السكانية والثقافية في الشرق الأوسط، إذ تضم أقليات عرقية ودينية عدة تشمل الكرد والآشوريين والتركمان والشركس والأرمن، إلى جانب الطوائف الدينية مثل العلويين والدروز والإيزيديين والمسيحيين بمختلف مذاهبهم.
جاء سقوط نظام الأسد ليفتح الباب واسعاً أمام طموحات الأقليات لصياغة ملامح سوريا الجديدة نحو وطن يجمعهم، نحو مستقبل أكثر آماناً. غير أن ذلك يعوزه تجاوز العديد من التحديات حتى إدراك هذا الهدف، الذي طال وامتد وتعقد لا سيما خلال سنوات الأزمة السورية، الأمر الذي بدت معه تطلعات الأقليات وطموحاتهم قضية محورية في المجال العام.
لا يمكن مناقشة هذا الأمر خارج مبدأ الحقوق التي ينبغي أن تتمتع بها طوائف الشعب السوري بقدر من المساواة والعدل من خلال دستور يضمن للجميع المساواة، بالاعتراف بالهوية الثقافية واللغوية، بغية حفاظ كل طائفة على تراثها الثقافي واللغوي الذي يشكل جزءاً رئيساً من هويتها.
ويأتي ذلك من خلال ضمان التمثيل العادل في المؤسسات الحكومية، وإزالة التمييز في القوانين والسياسات. كما يعد التمثيل السياسي مرتكزاً أصيلاً للأقليات، حيث تسعى للحصول على دور أكبر في صنع القرار السياسي على المستويين المحلي والوطني، ما يدعم تحقيق توازن بين مختلف مكونات المجتمع السوري. وربما تكون أهم أمثولات الأزمة في سوريا الاعتراف بحتمية الوصول إلى مساحة الأمان والاستقرار، إذ تطمح الأقليات إلى استعادة أمانها بعد معاناة جراء التهجير والنزوح القسري، ما جعل عودتها إلى مناطقها الأصلية وإعادة بناء مجتمعاتها غاية رئيسية.
لا يمكن توقع بلوغ الأمر من دون العمل بجد وصدق لإنهاء التمييز والقمع التاريخيين، اللذين بلغا حد التهميش وتجذرا في المجتمع السوري بسبب سلطة البعث عقوداً طويلة، سواء ارتبط ذلك بالمستوى السياسي أو بغيره من الديناميات الاجتماعية، ما يدفع بالضرورة إلى السعي لتحقيق العدالة الانتقالية، ومعالجة كافة الانتهاكات السابقة.
دستور وطني يحمي الجميع
في هذا السياق، يشير سماحة الشيخ خلدون الحناوي، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في سوريا، إلى ضرورة الاستفادة من أخطاء الأنظمة السابقة التي أدت إلى التفكك واللجوء إلى التقسيم، “وهذا ما لا نقبله”، متابعاً لـ”963+”: “فرحة الشعب السوري بالخلاص من القوانين الجائرة والظلم يجب ألا تضيع هباءً بالعودة إلى المعاناة التي دمرت سوريا والعمل على تفكيك بنيتها، وتقديم الحقوق لأصحابها، واحترام التنوع وإدارته بشكل يجعل وضعية التعدد في المجتمع السوري قيمة مضافة في المستقبل”.
يضيف الحناوي: “يجب العمل بشكل دقيق لرسم دستور وطني يضمن كرامة المواطنين جميعهم، وحقوقهم، ويحترم عقائدهم وانتماءاتهم. وهذا لا يتم إلا بالتجرد والنزاهة والمحافظة على الوحدة الوطنية ورد المظالم ورفع الظلم عن المواطنين الذين تسلطت عليهم الأنظمة السابقة جراء القوانين التعسفية، والتعويض العادل. لذا، نأمل أن تصاغ في دمشق رؤية واعية وعادلة، تنزع الخوف من قلوب الأقليات”، لافتاً إلى أن الموحدين الدروز لا يعتبرون أنفسهم أقلية، “بل أكثرية في وطنيتنا وأخلاقنا وعقيدتنا واحترامنا للآخرين، فالانتماء شرف لكل مواطن، ونتمنى أن ينسحب ذلك على جميع السوريين، بالرغم من وجود نعرات طائفية عند الأكثرية، وخصوصاً تكفير الآخرين وتسفيه عقائدهم بسبب الغلو الديني، وهذا واقع مرير عند بعض الفئات”.
ويختتم الحناوي حديثه بالقول: “نحن في ترقب وانتظار لما تقدمه دمشق حتى ترفع عن الشعب السوري مرارة الظلم والجور. وهذا لا يتم إلا بصياغة دستور جديد يحقق للشعب السوري ما يتمناه. كما أننا نحترم حق الأكثرية، وتاريخياً لم يسبق لنا أن تجاوزنا حقهم في القيادة مع التشارك النسبي للجميع في المسؤوليات والمهام الوطنية”.
المطلوب آليات واضحة
من جانبه، يقول علي عيسو، مدير مؤسسة “إيزيدينا”: “يمكن تحقيق المساواة بين جميع مكونات المجتمع السوري من خلال العدالة الانتقالية، وبالتالي التوجه نحو مرحلة انتقالية تتم فيها اختيار ممثلين عن جميع مكونات المجتمع السوري العرقية والدينية وكذلك الطائفية، مضيفاً لـ “963+”: “لجميع المكونات في سوريا الحق في المشاركة بأية عملية سياسية تتعلق بمستقبل البلاد، وهذا الحق مصان لدى شرائع حقوق الانسان وكذلك في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”.
ويتابع: “للأسف، الواقع في سوريا لا ينذر بأننا نتوجه نحو مرحلة انتقالية، فثمة غموض يلف المؤتمر السوري الوطني المزمع عقده من قبل الإدارة الجديدة في سوريا. ولا توجد إلى اليوم آليات واضحة لأجل اختيار ممثلي الشعب السوري ضمن هذا المؤتمر مع غياب رؤية واضحة ومحددة لأهداف المؤتمر فضلاً عن غياب رؤية الإدارة الجديدة لسوريا المستقبل. وبشكل أوضح يكون السؤال: ما هي رؤية الإدارة لشكل الحكم، هل سيكون ديموقراطياً مدنياً أم سيكون دينياً منغلقاً؟”
يجيب عيسو: “للأقليات في سوريا الحق في التعبير عن رؤيتها تجاه سوريا المستقبل، وهذا الحق عملنا عليه كإيزيديين حين اجتمعنا يوم الجمعة الفائت في ألمانيا، وشارك في المؤتمر الإيزيدي السوري ممثلين عن المنظمات السياسية والمجتمعية للإيزيديين في الداخل السوري وخارجه، فضلاً عن أيزيديين من ذوي الاختصاص، إضافة إلى نشطاء ورجال دين، واتفقنا على رؤية دستورية وتشريعية تتعلق بمطالب الإيزيديين في سوريا المستقبل”.
برأيه، هذا ما على جميع الأقليات أن تقوم به، “أي أن تجتمع لتحدد رؤيتها، ثم التوجه إلى المؤتمر الوطني السوري أو إلى تشكيل حكومة انتقالية تكون من مهامها ترجمة هذه الرؤى لمختلف المكونات إلى الدستور. وما لم تكن للأقليات دور بارز في صوغ الدستور، لن تكون سوريا كما نريدها للجميع. بل ستتحول إلى بلد يحكمها لون واحد وتوجه واحد وبالتالي إقصاء وتهميش لباقي المكونات والأقليات تماماً مثل ما فعله النظام السوري السابق بحسب المصدر ذاته”.
حق المواطنة
ويرى عيسو أن الدولة المدنية هي تحمي حقوق الأقليات، ويجب أن تكون التشريعات الدولية المتعلقة بحقوق الانسان المرجعية الأساسية للدستور السوري المستقبلي، أي يجب ألا يكون الدستور المستقبلي كالسابق في ما يتعلق بجعل التشريعات الإسلامية مصدراً للتشريع، “ولا نريد أن تكون سوريا لفئة دينية واحدة ولا نريد أن تعتمد الدولة السورية في تشريعاتها على دين واحد، فتعريف المواطنة هو التساوي في الحقوق والواجبات، وبالتالي يمكن تحقيق المساواة بالدستور بحيث لا يحمل أي صفات تمييز بين المسلم السوري عن الإيزيدي أو المسيحي السوري من خلال تخصيص بنود تمنح حق الرئاسة للمسلمين دون سواهم، أو يكتب دستور يحدد عربية الدولة السورية من دون النظر إلى القوميات الأخرى التي تتجاوز أعداد أفرادها أكثر من أربعة ملايين سوري”.
ويختم عيسو بالقول إن الدولة المدنية التي تحترم حق المواطنة تفصل الدين عن الدولة، “وهذا جوهر ما تطلبه الأقليات”.
إلى ذلك، يبدو ترقب تمظهر صور حقيقية وواقعية لمفهوم الإرادة السياسية للسلطة الجديدة في دمشق، حتى تبدو طموحات وتطلعات الأقليات ماثلة على الأرض. ولا ريب في أن غاية الأقليات في سوريا مطالعة وطن جامع يكفل الحق في المساواة والعدالة لجميع مواطنيه، بعيداً عن التمييز والاضطهاد، من خلال الايمان بأن تلك الحقوق دعامة مركزية لأي مسار مستدام لمستقبل سوريا، وتحقيق ذلك يستحق بذل الجهود والإيمان الصادق بسوريا للجميع.
لا فضاء عمومي
ويرى المفكر السوري الدكتور عبدالله تركماني أن السلطة السورية حولت الدولة، منذ انقلاب البعث في 8 آذار/مارس 1963، من فضاء عام لكل المواطنين إلى فضاء خاص. ويقول تركماني لـ “963+” إن السلطة حددت هذا الفضاء الخاص لأهل الولاء للسلطة الأمنية، “وهنا تكمن أهمية تقديم رؤية سياسية أخرى لسوريا المستقبل بعد التغيير وسقوط هذا النظام، حيث يلزم أن يتمحور ذلك حول أسئلة السياسة الرئيسية: تأكيد حيادية الدولة باعتبارها دولة كل مكوّنات المجتمع السوري، وخيارات شكل النظام السياسي، والنظام الإداري للنظام السياسي الجديد، والتعاطي مع أسئلة الدولة والمواطنة والحريات العامة والفردية، والسياسة الخارجية التي تخدم مشروع إعادة بناء سورية الجديدة”.
وبعد الدمار المجتمعي التي شهدته سوريا منذ سنة 2011، يقول تركماني: “ندرك الصعوبات التي تكتنف المرحلة الانتقالية، وهي من أهم إشكاليات سوريا المستقبل بعد التغيير”، طارحاً عدة علامات استفهام حول المسارات التي ينبغي أن تعبرها سوريا في الأفق المنظور والأبعد نسبياً لبلوغ ذلك الهدف، إذ يرى ضرورة حسم شكل المؤسسات الكفيلة بإنتاج حياة سياسية جديدة لكل مكونات الشعب السوري، “بأن تكون مؤهلة لإعادة إنتاج الدولة الحديثة، بما يحوِّل حالة الفوضى الراهنة إلى عملية بناء، لا تقوم على الصراع وإنما على عقد الوطنية السورية الجامعة”، مشيراً إلى حتمية تأكيد ما الذي ينبغي تغييره، وكيف يتم تفكيك الدولة الأمنية، وماهية الوصول نحو إنتاج النظام السياسي الذي يؤسس لنظام ديمقراطي، يؤسس للتغيير بكل مستوياته.
ويختم تركماني حديثه قائلاً إن الأمر يتطلب إعادة هيكلة النظام السياسي، وإطلاق حرية تشكيل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، وبناء جيش وطني حديث، إضافة إلى ضمانات لانتخابات نزيهة، وعدالة انتقالية، ومصالحة وطنية، “وهكذا، يبدو أن إمكان السياسة في مجتمعنا مرهون بتغيير قواعد إنتاج السلطة وآليات اشتغالها، وأشكال ممارستها، إذ تهدف العدالة الانتقالية إلى إطلاق المصالحة المجتمعية الشاملة، كي تتمتع الأجيال المقبلة ببيئة اجتماعية سليمة، غير مشوهة بأحقاد أو مساعٍ للثأر.
ويضيف أخيراً: “هذا هو المدخل اللازم لنجاح عملية الانتقال الديموقراطي، والاعتراف بضحايا الفترة السابقة، لمنع تكرار ما حدث. كما تهدف إلى إنصاف ضحايا النظام الاستبدادي وتجاوزات قادته، خصوصاً خلال الثورة السورية وتعويضهم عما أصابهم من أذى، فهدف مؤسسات العدالة الانتقالية هو السعي إلى بلوغ العدالة الشاملة، أثناء مرحلة الانتقال السياسي من الشمولية إلى الديموقراطية، ومعالجة انتهاكات حقوق الإنسان، ومساعدة الشعب السوري على الانتقال السياسي بهدف الوصول إلى مستقبل أكثر عدالة وديموقراطية، من خلال توخي القضاء هدفاً مزدوجاً: المحاسبة على جرائم الماضي، ومنع وقوع الجرائم الجديدة، وفق استراتيجية تعتمد إعادة بناء وطن للمستقبل، يتسع لجميع مكونات الشعب السوري، قوامه احترام حقوق الإنسان والديموقراطية وسيادة القانون”.