دمشق
تعمل الدول الأوروبية على رفع العقوبات عن سوريا، وقد رفعت فرنسا جزءاً من هذه العقوبات، في إطار مساعٍ متواصلة لتوسيع نطاق الإعفاءات التي كانت مفروضة على نظام بشار الأسد المخلوع.
ويفرض الاتحاد الأوروبي مجموعة من العقوبات على أفراد وقطاعات اقتصادية في سوريا، ومنها فرض حظر على صادرات النفط السورية وقيود على استخدام القنوات المالية العالمية.
إلا أن العواصم الأوروبية بدأت في إعادة تقييم نهجها تجاه دمشق، بعد سقوط نظام الأسد الشهر الماضي، على يد “هيئة تحرير الشام” وفصائل متحالفة معها.
وتريد حكومات الاتحاد الأوروبي المساعدة في بدء عملية لتنمية سوريا لكن الكثير من العواصم شددت أيضاً على ضرورة اتباع الاتحاد نهجاً تدريجياً وقابلاً للتقييم والمراجعة، للحفاظ على نفوذه بينما يشجع السلطات الجديدة في دمشق على احترام الحقوق الأساسية وتنفيذ سياسات تشمل جميع السوريين.
وأمس الاثنين، قالت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس إن وزراء خارجية التكتل اتفقوا على خارطة طريق لتخفيف العقوبات على سوريا.
ورحّبت السلطة الجديدة في سوريا بخطة الاتحاد الأوروبي، لتعليق العقوبات المفروضة على القطاعات الرئيسية في البلاد.
ووصفت وزارة الخارجية السورية الخطوة بـ”الإيجابية”، وقالت في بيان: “نرحب بها ترحيباً حاراً، إذ تمهد الطريق للتعافي الاقتصادي وتحسين الوصول إلى الخدمات الأساسية، وتعزيز الاستقرار طويل الأمد في المنطقة”.
اقرأ أيضاً: عودة اللاجئين السوريين.. هل رفع العقوبات هو الحل الوحيد للعودة؟
وفي الغالب، يرتبط رفع العقوبات عن سوريا بشروط تضعها الدول الأوروبية، منها ما هو معلن ويتحدث عن مشاركة السوريين في بناء الدولة، وضرورة صياغة دستور يختوي جميع المكونات ويصون حقوقهم، لكن محللون يرون أن مكانة سوريا، تشجّع الدول الأوروبية على ضمان مصالح اقتصادية في المرتبة الأولى، والتي لن تتحقق دون استقرار وتنفيذ دمشق للشروط المعلنة.
شروط ودوافع
تتركز المحادثات الأوروبية مع القيادة السورية الجديدة على ملفات عدة؛ أبرزها ضمان عملية انتقالية سلمية، وحماية الأقليات، وتأمين مخزونات الأسلحة الكيميائية ومنع عودة تنظيم “داعش”.
ويرى خبراء أن التحركات الأوروبية تحركها مصالح استراتيجية وهواجس أمنية متعددة، في مقدمتها إيجاد حل لمسألة اللاجئين السوريين ومنع موجات لجوء جديدة، وتطلعها للحصول على حصة في مشاريع إعادة الإعمار المرتقبة، فضلاً عن مساعيها لتأمين موارد بديلة للطاقة.
يقول رامي القليوبي، أستاذ زائر بكلية الاستشراق في المدرسة العليا للاقتصاد بموسكو، لموقع “963+”، إن الدول الأوروبية تريد من الإدارة السورية الجديدة أمرين رئيسين،” أولهما؛ أن تنأى بنفسها عن الجماعات الإسلامية، وأن تُظهر خطوات جدية فيما يتعلق ببناء دولة مواطنة”.
أما الأمر الثاني “فيتجلى بقطع حكومة تصريف الأعمال لأي أشكال العلاقة مع روسيا وإقصاء القواعد الروسية من الساحل السوري”، بحسب القليوبي.
ويوضح أن السلطات السورية الحالية تتأنى حيال المصالح الروسية وإقصائها، كونها حكومة تصريف أعمال ولا يمكنها البت باتفاقات مدتها عشرات السنوات.
ولا يستبعد أن تفسح الحكومة السورية الاتفاقات مع روسيا بعد الانتخابات التي ستضفي عليها الشرعية. وفي الوقت ذاته تبدو الإدارة السورية الجديدة حريصة على إبقاء العلاقات مع روسيا لتحقيق التوازن مع التواجد الأميركي في شمال وشرقي البلاد.
وتتجه أنظار الدول الأوروبية نحو موارد الغاز في المنطقة، لتمثل بديلاً للإمدادات الروسية التي توقفت بسبب حرب أوكرانيا مما تسبب لها في مشاكل اقتصادية كبيرة.
من جهته، يرى الخبير الاقتصادي، أنيس بو دياب في تصريحات لـ”963+”، أن “الدول الأوروبية تحاول تقديم القيم المصلحية تحت غطاء القيم الأخلاقي، فهي ترغب بتحقيق مصالح اقتصادية في سوريا”.
ويضيف أن بعض الدول الأوروبية تحاول تثبيت حضورها في الشرق الأوسط عبر السواحل والدولة السورية، وترغب في تدارك ما انقطع تاريخياً من خلال الإدارة السورية الجديدة.
ويوضح أن تلك الدول تبحث عن التقاط ما وصفه بأنه “حلوى” في الشرق الأوسط في ظل الغطاء الأميركي، من موقع سوريا على البحر المتوسط والاستثمار في إعادة الإعمار ومواردها الطبيعية.
اقرأ أيضاً: دعوات غربية وعربية متكررة.. هل تنجز سوريا عملية انتقال سياسي شاملة؟
ويشير إلى أن الرفع الجزئي للعقوبات عن سوريا، “جس نبض للموقف” الأميركي الذي لازال يفرض العقوبات على دمشق، ومحاولة استباقية لحجز موقع في سوريا الجديدة.
ويلفت عضو هيئة مكتب المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في لبنان، إلى أن الدول الأوروبية تهدف إلى تحقيق مصالحها الاقتصادية في سوريا بما يخدم كل واحدة منها.
مصالح أوروبية
يقول كميل الساري أستاذ الاقتصاد والعلاقات الدولية في جامعة السربون بباريس، إن الدول الأوروبية تبحث عن مصالح اقتصادية في سوريا نظراً لموقعها الاستراتيجي الذي تمر منه طرقات تجارية وثرواتها الباطنية.
ويضيف الساري لـ”963+” أن “ما يهم بعض الدول الأوروبية كألمانيا، هو استقرار سوريا بسبب وجود آلاف المهاجرين، فضلاً عن رغبتها بتمثل جميع مكونات وأطياف الشعب السوري دون إقصاء”.
وأشار تقرير المجلس الأوروبي للشؤون الخارجية إلى أن المواقف الأوروبية المتسرعة تأتي مدفوعة بضغوط سياسية داخلية وصعود أحزاب اليمين، إذ إن العودة المستدامة للاجئين تتطلب أكثر من مجرد توفير الأمان، إذ يجب إعادة تأهيل البنية التحتية وتوفير فرص اقتصادية وتعليمية وصحية.
وأضاف أن بعض السوريين، وخاصة الشباب الذين نشأوا في أوروبا، قد لا يرغبون في العودة مطلقاً، مؤكداً أن أوروبا نفسها بحاجة لبقاء بعض السوريين، خاصة في قطاعات حيوية مثل الرعاية الصحية.
ومنذ بداية الحرب في سوريا سنة 2011، ترك أكثر من نصف السوريين ديارهم، أي 13 مليون شخص، بحسب مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين.
ويشير الساري إلى أن خطاب الزعماء الجدد في سوريا يبدو “رزيناً” ويذهب في النطاق الوطني. مضيفاً أن “الشركات الأوروبية متعددة المصالح وتبحث عن مشاركة في بناء سوريا من البنية التحتية إلى الاستثمار في قطاع الطاقة”، لكن ما يهم أكثر بحسب الساري هو إعادة السوريين للمشاركة في بناء وطنهم.
اقرأ أيضاً: أولوية أممية… متى يعقد مؤتمر الحوار الوطني السوري؟
ويبدو أن الاهتمام الأوروبي المستجدّ تجاه سوريا لا يتعلق بسعي بعض دول الاتحاد إلى خلق توازنات استراتيجية جديدة فقط، بقدر ما هو تغيير جذري في سياستها المعتمدة مع دمشق، والتي ستحمل أبعاداً متنوعة، على رأسها تكريس تواجدها في المنطقة من البوابة السورية؛ لمنافسة روسيا في سوريا والمنطقة.
وثانياً؛ تضييق الخناق على النفوذ الإيراني، مع مسعى جدي لضبط الانفتاح التركي على سوريا، بعدما باتت أنقرة تغرّد بعيداً عن الإجماع لحلف شمال الأطلسي (الناتو).