مع بداية كل موسم، تحمل أم علي، وهي امرأة أربعينية من دير الزور، شرقي سوريا، سلتها وتتجه مع أبنائها إلى أعماق البادية، حيث تنمو الكمأة التي تعتبر مصدر رزقها الأساسي. في أحد الأيام، وبينما كانت تهم بجمع الفطر، سمعت صوت انفجار قوي على مقربة منها، لتكتشف لاحقاً أن أحد الرجال الذين خرجوا للبحث عن الكمأة قد أصيب بلغم أرضي.
تقول أم علي بنبرة يملؤها القلق لموقع “963+”: “رأينا الدخان يتصاعد وسمعنا صرخات طلب النجدة، كان مشهداً مرعباً. رغم ذلك، لم يكن لدينا خيار سوى الاستمرار، فالحاجة تدفعنا للمخاطرة يومياً”.
فرصة رغم المخاطر
بالنسبة لسكان البادية السورية، يمثل موسم الكمأة فرصة ذهبية لتحسين أوضاعهم الاقتصادية في ظل غياب فرص العمل الأخرى. هذا الفطر النادر، الذي يحظى بطلب مرتفع في الأسواق المحلية والعالمية، يمكن أن يؤمن مصدر دخل جيد للكثيرين. غير أن هذا الموسم ليس خالياً من التحديات، فالألغام الأرضية والمخلفات الحربية التي تركتها النزاعات لا تزال منتشرة في الصحارى، ما يجعل كل خطوة في رحلة البحث عن الكمأة مغامرة محفوفة بالخطر.
ويقول أحمد أبو زيد، وهو رجل في الخمسينيات من عمره من مدينة السخنة بريف حمص الشرقي، إنه يخرج سنوياً مع مجموعة من الرجال لجمع الكمأة، رغم علمه بالمخاطر التي تهدد حياتهم.
وبينما كان يعد نفسه لجولة جديدة من البحث، يضيف أبو زيد لـ”963+”: “لا يوجد لدينا عمل آخر. منذ سنوات ونحن نبحث عن الكمأة لنبيعها ونوفر لقمة العيش لعائلاتنا. في كل مرة نخرج فيها، نشعر وكأننا نلعب لعبة الموت. لقد فقدنا العديد من الأصدقاء والجيران بسبب الألغام، لكن لا خيار أمامنا سوى الاستمرار”.
رزق محفوف بالخوف
بينما يسير الجامعون عبر أراضي البادية، يحاولون اتخاذ تدابير وقائية لتجنب المخاطر. يقول أبو زيد: “نحن نتحرك بحذر شديد، ونتجنب السير في المناطق التي نعلم أنها شهدت معارك سابقة. لكن مهما كنا حذرين، فإن الألغام لا تزال تشكل تهديداً قاتلاً”، مضيفاً أن حتى أكثر الجامعين خبرة لا يمكنهم التنبؤ بمكان الألغام، مما يجعل الأمر أقرب إلى المقامرة بالحياة.
وخلال موسم جمع الكمأة الممتد بين شباط/ فبراير ونيسان/ أبريل من كل عام، يتكرر سقوط قتلى جراء انفجار الألغام مع انصراف السكان إلى جمعها من مناطق صحراوية شاسعة خضعت سابقاً لسيطرة تنظيم “داعش”، الذي اعتمد زراعة الألغام كاستراتيجية أساسية خلال سنوات سيطرته حتى دحره من آخر معاقله عام 2019.
اقرا أيضاً: عشرات القتلى والجرحى من جامعي الكمأة في سوريا خلال شهر – 963+
وكان قد أحصى المرصد السوري لحقوق الإنسان، مقتل 80 شخصاً بينهم طفل و13 امرأة وإصابة 16 آخرين أثناء عمليات البحث عن الكمأة خلال الفترة الممتدة بين 15 فبراير إلى 17 مارس العام الماضي.
وكان محمد الصالح، ناشط حقوقي من دير الزور، قد فقد شقيقه العام الماضي في حادث مأساوي أثناء جمع الكمأة. يقول بحزن عميق لـ”963+”: “أخي كان يعمل بجد لإعالة أسرته. خرج ذات صباح للبحث عن الكمأة ولم يعد. عندما تلقينا الخبر، وجدناه وقد فارق الحياة بسبب لغم أرضي انفجر به”.
ويضيف: “نحن بحاجة إلى تحرك عاجل من الجهات المختصة لتطهير هذه المناطق من الألغام. لا يمكن أن تستمر هذه المجازفات التي تهدد حياة الأبرياء كل عام”.
الأمل رغم التحديات
رغم كل المخاطر التي تحيط بجمع الكمأة في البادية السورية، لا يزال الأمل حاضراً في قلوب هؤلاء الباحثين عن الرزق. بالنسبة لهم، فإن هذا الموسم ليس مجرد وسيلة لجني المال، بل هو جزء من تراثهم وتاريخهم، حيث اعتاد أجدادهم التنقل في الصحارى وجمع هذا الفطر الثمين.
ويظل الحلم الأكبر هو أن يأتي يوم يتمكن فيه سكان البادية من العمل دون خوف، وأن تتحول رحلات البحث عن الكمأة إلى مغامرات سعيدة خالية من شبح الموت.