مقتل الفنان والممثل الكوميدي الكردي السوري الاستثنائي والأكثر شهرة “جمعة خليل/بافى طيار” بطريقة مأساوية، أثر قصف الطائرات التركية لقافلة المدنيين التي كان الممثل الكوميدي ضمنها بالقرب من “سد تشرين”، يشكل استعارة عن كامل الأوضاع الحياتية والسياسية والثقافية للكُرد في سوريا؛ كجماعة تأبى تراجيديات القسوة والدم والعنف أن تتركهم لمصائرهم الاعتيادية، مثل باقي المكونات الأهلية في البلاد. فحتى أشهر شخصياتهم طلباً للكوميديا وجلباً للمرح، لم يسلم من القهر التراجيدي في أواخر حياته.
تجربة “بافى طيار” لم تكن محاولة شخص/فنان في اجتراح نموذج فني متمركز حول الكوميديا الشعبية، بل كانت كفاحاً اسطورياً في سبيل ما كان يبدو مستحيلاً ومصيره المحق، حسب الشروط السياسي والأمني التي خطها النظام السوري للدولة السورية، وموقع الكُرد فيها. فموضوعياً، كانت المآسي تلف شكل حياة المجتمع الكردي من كل حدب، ما كان يحول بينهم وبين إمكانية إغرائهم بأية كوميديا فِرِحة. ومنطقياً، كان الجبروت الأمني في نظام مثل الدولة السورية، يحبس حتى نسمة الهواء لو كان لها بنية وهوية كردية ما.
منذ أواخر الثمانينات، حينما بدأ هذا الفنان تمثيل وإنتاج مقاطع مصورة ومسرحيات سرية ذات طابع كوميدي، مستمداً إياها من بنية الثقافة والحياة اليومية الكردية في سوريا، بلغتهم وحسب قضاياهم وهواجسهم السياسية، كانت الثقافة واللغة الكردية خاضعة لوحد من من شكلي تعامل:
أما محظورة تماماً، وخاضعة لعميلة بعثنة وتعريب رهيبة، تطال كل تفصيل ذا نفس كردي، تقمع كل انتظام أو مؤسسة كُردية الطابع، حتى لو كانت فريقاً رياضياً في آخر قرية نائية من سوريا.
أو ذا بنية صلبة ومباشرة ونضالية، تصنف نفسها كتيار مقاوم لما يُمارس بحقها من إبادة جماعية، إذلال وحشي محاق للإرادة، أرادت هذه الثقافة والفنون الكردية أن ترد عليه بخطابية ذكورية ورومانسية نضالية غارقة في الاعتداد بالذات.
من بين تلك الأنقاض، راهن “بافى طيار” وفريقه المقرب على العكس تماماً، كجماعة تؤمن بحتمية وجود نسمة حياة ما، ولو من قلب كل تلك المآسي وأشكال التحطيم المبرمجة، ونجح مع رفقته، وصار خلال سنوات قليلة رموزاً للذات الجمعية وجزء من الفضاء العام لذويهم الكُرد.
إذ انتشرت المقاطع التي أنتجها ومثّلها “بافى طيار” في الأوساط الكردية بشكل استثنائي طوال سنوات، حتى صارت أيقونات في الروح الشعبية ومُثلاً في الكلام العام لكُرد سوريا، الذين تداولوا قصصه البسيطة وعباراته المرهفة ضمن يومياتهم. كان ذلك الأمر تشييداً لأول لغة فنية بصرية كردية شعبية الطابع، وأول منتج ثقافي مرهف الهوية. فهي نقلت صوراً بديعة عن أنماط حيوات الكرد السوريين وشيفرات معيشتهم وصور قراهم ومنازلهم وأزيائهم ومناسباتهم، نُكاتهم ولغتهم الجسدية ونوعية مفارقاتهم وحسهم بالأشياء، نقلها إلى ملايين الكُرد الآخرين، سواء في البلدان المحيطة بسوريا أو المغتربات الأوربية.
الساحر في تجربة “بافى طيار” هو إصراره الدائم وإيمانه المطلق بهذه اللغة الكوميدية المليئة بروح الدعابة ونزعة المرح وخلق البهجة رغم مآسيه الشخصية، التي لم يكن يخفيها عن المحيطين به قط. فالشخص الذي عاش فقراً مُدقعاً، ولم يتلقَ تعليماً إلا بالحد الأدنى، وكان منحدراً من حي طرفي من المدينة التي ولد فيها، وعمل طوال حياته في أكثر الأعمال الجسدية إرهاقاً، فيما كانت واحدة من بناته أسيرة حرب، ولم ينفك شخصياً عن الملاحقات والمضايقات الأمنية قط، وصلت في الكثير من المرات درجة الإيذاء النفسي والجسدي المرهق لكل سلام داخلي كان يحمله. لكن، ومع كل ذلك، بقي مصراً ومؤمناً بدرب واحد، هو الكوميديا، كنمط عيش وأداة لإيصال ما كان يعتقد أنها رسالته الشخصية وقضية شعبه.
بقي مؤمناً ومياوماً على الكوميديا، رغم تفكك السلطة الأسدي في المناطق ذات الأغلبية الكردية، حيث كان يعيش، وحافظ عليها بعد انفتاح الدروب أمام الثقافة والفنون الكردية، فهو لم يقل ويمارس غير رهافة الكوميديا، حتى حينما تحرر من أصفاد الهيمنة الأمنية وقيود سلطة الدولة البعثية، إذ لم ينزح قط لأي خطاب تقريعي أو لغة حماسية مُنددة بالآخر أو مناهضة له. كان ذلك دلالة على أن الكوميديا التي مارسها طوال حياته لم تكن مجرد تقية سياسية أو أمنية، بل جوهر الحياة التي كان يؤمن بها.
مع كل ذلك، كانت خاتمة حياته استعارة شديدة الوضوح والمباشرة والدلالة على “البؤس” الذي يلاحق أكراد سوريا كقدر مطلق. فـ”بافى طيار” الذي بقي مطارداً من السلطة الأمنية والعقلية البعثية التي للنظام السابق، وكان يعتبر نفسه مناهضاً مطلقاً لجبروتها العسكري ومنطقها السياسي الفاشي وخطابها الثقافي القسري، قُتل في المحصلة على يد خصوم هذا النظام، على يد من كانوا طوال تلك السنوات يعتبرون أنفسهم معارضين أيضاً للنظام ذاته، وإن بأدوات مختلفة تماماً عما كانت لـ”بافى طيار”، أدوات أكثر صلابة وأقل إيماناً بالحياة، على يد أناس يخافون الكثير من الأشياء، لكن أولها وأكثر وضوحاً هي “الكوميديا”، على يد أناس اختلفوا مع النظام الأسدي في كل الأشياء تقريباً، لكنهم اتفقوا معه على تفصيل صفير: “الكوميديا لا تليق بأكراد البلاد، بل التراجيديا”.