يقول الدكتور زيدون الزعبي، الباحث في قضايا الحوكمة والهوية، إن التحديات التي تواجه سوريا كبيرة وعميقة وربما معقدة، “ولهذا ينتابني العديد من المخاوف بشأن الحفاظ على بنية الدولة في سوريا، وخطر انهيارها”، مشدداً في حوار خاص مع “963+” على أن الإشارات التي تنطلق من السلطة الجديدة في دمشق إيجابية، لكنها لا تطمئن وحدها على مستقبل البلاد.
ويضيف الزعبي أن سوريا تواجه اليوم سؤالاً مركباً ومفصلياً حول كيفية الوصول إلى مقاربة تحقق التوازن بين حقوق الجماعات وحقوق المواطنين، من دون تقاطعات في ما بينهما، وذلك في تقديره عتبة آمنة لسوريا المستقبل، ويرى أن اللامركزية “أهم المساحات الآمنة التي ينبغي اللجوء إليها لإنقاذ الدولة والمجتمع عبر المناطق كلها”.
ويتطرق الزعبي إلى التدخل التركي في سوريا، بعد تراجع إيران وروسيا، وبرأيه المطلوب احترام الجغرافيا السورية من دون أي خرق لمفهوم السيادة وآلياتها.
وفي الآتي نص الحوار:
جاء سقوط نظام الأسد في أيام معدودات مخالفاً لترجيح كثيرين منخرطين في الملف السوري. وفتح هذا السقوط الباب أمام سيناريوهات عديدة لمآلات الوضع في البيت السوري. كيف تنظر إلى هذه التحديات؟
نعم، التحديات عميقة، وفي تقديري أن فهم هذه التحديات وتعقيداتها يدفعني للخوف من سيناريو انهيار الدولة، الأمر الذي يرفع من منسوب خطر انهيار مستقبل سوريا. وهذا يجعلني، في كثير من الأحيان، حريصاً على تأكيد ضرورة التمسك ببنية الدولة ومؤسساتها، وأهمية الحفاظ عليها كأولوية قصوى.
نستطيع تفصيل هذه التحديات على نحو واسع كالتحديات القانونية، والسياسية، والاقتصادية، والأمنية، والطائفية، والإثنية، والعرقية، ما يجعل مفهوم الدولة الفاعلة والمستقرة على المحك، ويحتاج يقيناً إلى تضافر كل الجهود للحفاظ على بنية الدولة السورية.
ثمة يقين بأن مفتاح هذا الاستقرار هو تمكين كل مكون من مكونات المجتمع السوري من حقوقه الدستورية والقانونية والثقافية. هل تؤمن بقدرة الإدارة الجديدة على تحقيق ذلك، وبنيتها تحقيق ذلك؟
لا أشعر بارتياح لاستخدام فعل “تؤمن” في السؤال. وذلك، في ظني، يعود إلى أن المسألة المطروحة معقدة، فالمواطنة تعني المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات لكل الجماعات المؤلفة للنسيج المجتمعي السوري.
إذاً، هل تؤمن؟
أتمنى ذلك حقيقة. هناك بعض الإشارات مثل ما حدث عندما غرد وزير الخارجية السوري بالكردية، وهذا إقرار منه باللغة الكردية لغة رسمية في سوريا، وبأن الأكراد مكون أساسي من مكونات المجتمع السوري. وبالتالي، ينبغي ترسخ هذا الإقرار كحق دستوري. لكن، عليّ التأكيد أن الإشارات ليست كافية. ولهذا، سأترك كلمة واحدة كإجابة على هذا السؤال: أتمنى، من دون التوثق من حدوثه.
كنت تخشى دائماً سيناريو التقسيم في سوريا، نظراً إلى تعدد مناطق النفوذ في البلاد. أما زلت على درجة الخوف نفسها؟
ربما علي القول بكثير من الحرص إنني الآن أقل خوفاً من الماضي. لكن، هذا لا يعني أنني لم أعد أرفع رايات الحذر والخوف من أهمية الحفاظ على نسق الدولة وبنيتها. ثمة تحديات علينا أن نتنبّه لمواجهتها، وأن يكون الجميع على درجة واحدة من مراعاة المستقبل بالعمل اللازم.
فهل تبدو اللامركزية إذاً مخرجاً آمناً نحو المستقبل في سوريا؟
في تقديري، اللامركزية في سوريا هي أهم المساحات الآمنة التي ينبغي اللجوء إليها لإنقاذ الدولة والمجتمع عبر المناطق كلها. فقد كانت اللامركزية وما زالت مخرجاً آمناً لحماية الدولة والمجتمع في سوريا.
ثمة ارتياب من تراكم النفوذ التركي في سوريا، وكأنه البديل لملء الفراغ الذي سببه التراجع الإيراني والروسي. إلى أي حد ترى ذلك واقعاً، وهل تشعر بعدم الارتياح حقاً من ذلك؟
نعم، وبكل تأكيد، أشعر بقلق تجاه أي تدخل أجنبي في سوريا. وأعود للتأكيد أن المستقبل في سوريا يحتاج يقيناً إلى تضافر جهود الدول العربية والانخراط بشكل فاعل في صياغة مستقبل سوريا. كما أن ذلك سيضحى مفيداً في صنع توازن مع الدور التركي في سوريا. بيد أن ذلك لا يعني بالضرورة التدخل في سياسات البلاد وشؤونها الداخلية، إنما المطلوب احترام سيادة سوريا من دون أي خرق لمفهوم السيادة وآلياتها.
ثمة كلام عن مؤتمر وطني في النصف الثاني من شباط/فبراير المقبل، من دون أجندة واضحة. ما السبيل إلى ضبط هذا الأمر؟ وهل ترى أن المراقبة الدولية لمثل تلك الفعاليات مجدية؟
بالطبع، لا أشجع وجود أي مراقبة دولية على الإطلاق، ولا أراها مجدية أبداً. لكن، في الوقت نفس، أطالب بدور حقيقي للمجتمع المدني. في أية حال، دعني أقول شيئاً مهماً في تقديري، وهو أهمية أن يكون عقد مؤتمر يستطيع أن يضم الجميع في دائرة مشتركة على طاولة مستديرة تلم مكونات المجتمع السوري وفقاً لمبدأ المواطنة من دون أي استثناءات. وبالتالي، إذا كان ثمة مؤتمر لا يتّسم بكونه يشمل الجميع – وأكرر الجميع – وبأجندة واضحة لا لبس فيها، فإن ذلك سيفتح الباب واسعاً أمام التداخلات الخارجية.
هل ينبغي أن يتزامن ذلك مع مشروع دستور جديد في البلاد يضمن حقوق مكونات المجتمع السوري كلها وينظم تلك المسائل؟
يجب أن يضمن الدستور في سوريا حقوق الجميع من دون استثناء، وأن يضمن العدالة والمساواة للجميع من دون تفريط. سأوضح هذه النقطة على نحو دقيق: لا ينبغي الاهتمام بحقوق الجماعات والطوائف المتعددة في سوريا فحسب، ولا ينبغي أن يأتي ذلك على حقوق المواطنين. ثمة ضرورة ملحة للتوازن في هذا الأمر والاهتمام بكل شؤونه، فحقوق الإنسان هي الحد الفاصل في هذه المسألة، خصوصاً لو حدث تعارض بين حقوق الجماعات وحقوق الفرد. لذا، فإن نقاشات الدستور ينبغي أن تنطلق اليوم وليس غداً، أما ظهوره إلى العلن فقد يحتاج إلى وقت أطول، وقد يستغرق ذلك سنوات. الأمر ليس يسيراً على الإطلاق. نحن نعيش في بلد متنوع، ومنسوب الأمن الأهلي في أقل درجاته، واقتصاده منهك جداً، ومؤسساته هشة وتكاد تنهار بشكل كامل. وبالتالي، يشي ذلك كله بأن التعجّل في كتابة الدستور لا يعني إلا “سلق” هذا الاستحقاق المهم. كما أن ذلك يعني أيضاً عدم مراعاة حقوق المكونات والتنوع في سوريا. إذاً، نستطيع القول إن الحوار المجتمعي الجاد والحقيقي هو السبيل المنطقي لصوغ دستور يحقق آمال السوريين وتطلعاتهم.
بدأت ولاية دونالد ترامب، ويبدو أن له منطقاً خاصاً في الشرق الأوسط، يرتبط بأوضاع دولية، لا سيما في أوكرانيا. ما تقديرك لمحددات واشنطن من الوضع في سوريا والسلطة الجديدة في دمشق؟
أعتقد أن الإدارة الأميركية لن تقدم على سحب قواتها من سوريا في الوقت الحالي. ما زال مبكراً للحديث عن أمر كهذا. لا يمكننا التوقع أن هزيمة إيران في سوريا قد تكون العامل المحدد لانسحاب واشنطن. ربما كل المحددات في هذه المنطقة تدفع الإدارة الأميركية إلى مراجعة ملامح حضورها في الشرق الأوسط، وأهمية أن تحتفظ بحضور سياسي وميداني عبر نقاط جغرافية مهمة واستراتيجية. قد لا يبدو ذلك يقيناً في ما يخص ذهنية ترامب نفسه، لكنني لا أتوقع أن الحزب الجمهوري بعقليته السياسية يفكر حالياً بالانسحاب، كما لا يعتبر أن ذلك أمراً صائباً ألبتة، لذلك أستبعد حدوث ذلك حالياً.
ربما ارتكبت المعارضة السورية أخطاءً عديدة في السنوات الأخيرة، وهي الآن أمام التزام تاريخي لضبط الوضع والمساهمة في صوغ مستقبل البلاد. هل تطمئن إلى ذلك؟
لست متفائلاً، ولست متشائماً أيضاً. كما لا أرغب في تصدير أي صورة للناس. لكن علينا التزام الواقعية بكل مفرداتها ومكوناتها، والتنبّه إلى محددات الواقع الذي تعيشه سوريا الآن. علينا جميعاً العمل بجدية للمضي قدماً نحو مستقبل أفضل في سوريا، بعيداً عن أخطاء الماضي، وبعيداً عن تدجين المستقبل بشعارات لا تعبر عن احترام العمل، وضرورة أن يكون هذا العمل جدياً فعلاً.