في جبال السويداء جنوبي سوريا، على مساحات تمتد بين الصخور السوداء والسماء الصافية، تقع قرى حافظت على طابعها الأصيل منذ أزمان بعيدة.
من بين تلك المعالم التي تجسد هوية هذه المنطقة وخصوصيتها، تبرز المضافة، التي ليست مجرد غرفة أو مساحة اجتماعية، بل هي نبض الحياة الثقافية والتراثية لأهل السويداء، وشاهدٌ حي على قيم الكرم والشهامة التي تنتقل من جيل إلى آخر.
قصة عراقة وهوية
منذ القدم، كانت المضافة القلب النابض لكل بيت في السويداء، في المدينة أو في الريف. هي الغرفة الأكبر في المنزل، وعادةً ما تحتل الصدارة، ترصف في جوانبها “الطواطي” لاستقبال الضيوف بأفضل هيئة.
هنا، يتجمع الناس في الأفراح والأتراح، ويُعقد مجلس الشورى العائلي لحل المشاكل واتخاذ القرارات. ولعل هذا ما جعل المضافة تتخطى كونها مجرد مكان، لتصبح رمزاً للفخر، ومركزاً للقرار الاجتماعي والسياسي في حياة أهل السويداء.
عندما نتحدث عن المضافة، لا نتجاوز مضافة سلطان باشا الأطرش، قائد “الثورة السورية الكبرى”. هنا، كان الثوار يجتمعون، يخططون ويناقشون تحركاتهم، قبل أن يخرجوا لمحاربة من يصفونهم بـ”الاستعمار”.
وكانت المضافة دائماً بيتاً “للفكر والمقاومة”، مكاناً يجمع القادة والشجعان الذين يناضلون من أجل الحرية. وهذا التاريخ يعيد لنا صورة حية في ذاكرة أبناء السويداء، جعلت من المضافة جزءاً لا يتجزأ من كفاحهم وحياتهم.
متحف حيّ بين الجدران
في وسط المدينة، تجد مضافة مرسل بلان، المكنى بـ”أبو خلدون”، وقد حولها إلى متحف حيّ يجمع فيها مقتنيات وأثراً حضارياً من كل أنحاء العالم.
منذ أكثر من 50 عاماً، بدأ أبو خلدون، كما يقول لموقع “963+”، بجمع القطع الفنية والثقافية من مختلف الحضارات: الإسلامية، المسيحية، الهندوسية، وحتى حضارات أميركا اللاتينية. ويضيف بفخر: “من ينسى تاريخه يضيّع مستقبله”. كانت مهمته أن يحافظ على تراث السويداء، ليبقى شاهدًا على أصالة هذه المنطقة وروحها الفريدة.
لكن المضافة ليست فقط مكاناً يجتمع فيه الناس، إنها أيضاً مسرح لطقوس الضيافة التي تأسر القلوب.
في السويداء، يعتبر فنجان القهوة المرة جزءاً لا يتجزأ من الترحيب بالضيف، يحمل معه رموزاً ودلالات تتجاوز مجرد الشرب. يُعد تحضير القهوة طقساً دقيقاً يبدأ من تحميص الحبوب وتقليبها على النار، ثم طحنها في “المهباج” بأصوات إيقاعية تميز كل صاحب مضافة.
فالقهوة هنا ليست مشروباً عادياً، بل هي رسالة ترحيب، وإعلان عن استعداد المضيف لحماية ضيفه مهما كانت الظروف.
اقرأ أيضاً: الإسمنت يحرم السويداء حجرها البازلتي الأسود
قصة المضافة في السويداء ليست مجرد حكاية محلية، بل هي انعكاس لقيم إنسانية عالمية. “الكرم، الشجاعة، الدفاع عن الحق، والتمسك بالجذور”، كلها مبادئ نجدها في كل مجتمع، لكن في السويداء تُجسد بطريقة فريدة عبر المضافة.
وفي زمن التكنولوجيا والتطور السريع، بدأت بعض العادات تندثر، لكن المضافة تبقى رمزاً حياً لهذا التراث، وصلة بين الماضي والحاضر. إنها دعوة لكل شخص، من كل مكان في العالم، للحفاظ على تراثه الخاص، والاعتزاز بجذوره، كما يفعل أهل السويداء.
فالمضافة ليست فقط غرفة، بل هي قصة تُحكى، جدران تحفظ ذاكرة، وبيتٌ يفتح أبوابه لكل من يبحث عن الكرم والأصالة.
ومع مرور الزمن، تتراجع بعض العادات أمام زحف الحداثة. لكن في السويداء، هناك دعوات مستمرة للحفاظ على هذا التراث، وعدم السماح له بالاندثار.
وكما قال أبو خلدون لـ”963+”: “يجب علينا أن نجمع هذا التراث في متاحف وأن نحافظ عليه، لأنه يمثل هوية وقيماً يجب أن نمررها لأبنائنا وأحفادنا”.
في النهاية، المضافة ليست فقط جزءاً من تراث السويداء، بل هي جزء من التراث الإنساني، تعكس روح المكان وروح الناس الذين يعيشون فيه. سواء كنت في السويداء أو في أي مكان آخر في العالم، هناك دائمًا شيء يمكنك أن تتعلمه من قصة المضافة، قصة الكرم والشهامة التي لا تموت.