تطرح عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أسئلة مهمة حول التوجهات الخارجية التي سيتبعها في المستقبل القريب. الرجل الذي ترك بصمة واضحة على الساحة الدولية خلال رئاسته الأولى (2017-2021)، يعود اليوم في سياق دولي معقد وتحديات اقتصادية وجيوسياسية متزايدة.
من السمات البارزة في سياسة ترامب الخارجية هو شعار “أميركا أولاً”، الذي اعتمد عليه خلال حملاته الانتخابية السابقة، وما يزال يشكل الأساس لرؤيته المستقبلية. يعبّر هذا الشعار عن رغبة ترامب في تعزيز المصالح الوطنية للولايات المتحدة، متجاهلاً في بعض الأحيان تحالفاتها التقليدية وسياسات التعاون الدولي. يهدف هذا المبدأ إلى تقليص الالتزامات العسكرية والاقتصادية التي تعتبرها إدارته عبئاً على الاقتصاد الأميركي، من دون أن تحقق عوائد ملموسة.
يتضح أن سياسة “أميركا أولاً” تقوم على أساس حماية الاقتصاد الأميركي وتعزيز القوة العسكرية، حيث يسعى ترامب إلى تمكين أميركا من استعادة هيمنتها في مجالات التجارة والطاقة والأمن، رغم ما قد تسببه هذه السياسة من توترات مع الحلفاء التقليديين. وبالتالي، يُتوقع أن تشهد فترة رئاسته الثانية نهجاً أكثر عزلة في العلاقات الدولية، مع إعطاء الأولوية للمصالح الأميركية في جميع المفاوضات والاتفاقات الدولية، وهو ما يعني تراجع الاهتمام الأميركي بالقضايا العالمية التي لا تخدم مصالحها المباشرة.
ترامب لا يُعد سياسياً تقليدياً البتة، بل هو شخص يرفض أن يتقيد بالقواعد الراسخة للسياسة الأميركية، سواء داخلياً أو خارجياً. هو لا يهتم باستمرار الأنظمة أو الحدود، بل يركز على المصلحة الأميركية بكل وسيلة ممكنة. ففي تصريحات مثيرة للجدل طوال الشهر الماضي، اقترح ضم كندا للولايات المتحدة وشراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك، فضلاً عن السيطرة على قناة بنما الاستراتيجية. لم يجرؤ أي رئيس أميركي في السابق على التطرق لهذه الأمور علناً، ولكن ترامب يتخذ موقفاً يعتمد على القوة والهيمنة لتحقيق أهداف بلاده.
ستركز سياسة ترامب الخارجية القادمة على ثلاث محاور رئيسية: الصين، روسيا، وتوجهات السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. هذه القضايا تمثل تحديات معقدة، وتستلزم استراتيجيات دقيقة لتحقيق التوازن بين المصالح الأميركية وحاجات الحلفاء في سياقات جيوسياسية متغيرة.
بالنسبة للصين التي لا يضمر ترامب لها خيراً، وتتوتر العلاقات دوماً حول قضايا مرتبطة بمجالات التجارة والتكنولوجيا، فمن المتوقع أن يستمر ترامب في اتباع سياسة تجارية صارمة تجاه بكين، وتوسيع ممارسات الضغط الاقتصادي بهدف الحد من النفوذ الصيني في الاقتصاد العالمي، وهو الأمر الذي قد يخلق، في حال إدارته بشكل سيء، أزمات مالية عالمية لما لهاتين الدولتين من قوة اقتصادية ضخمة.
من ناحية أخرى، تظل العلاقة مع روسيا من القضايا الأساسية في السياسة الأميركية، حيث يسعى ترامب إلى تحجيم دور موسكو على الساحة الدولية من خلال زيادة الضغوط عليها في العديد من الملفات، بما في ذلك قضايا الأمن السيبراني والنفوذ العسكري والحريات الداخلية. إن حل الأزمة الروسية – الأوكرانية واحدة من الوعود التي أطلقها ترامب لمرات عديدة، وهو حل قد لا يرضي أي من طرفي النزاع.
في الشرق الأوسط، قام ترامب في ولايته الأولى بإعادة تقييم دور الولايات المتحدة في المنطقة، مُركزاً على تحقيق أهداف استراتيجية تخدم مصالحها مباشرة. كانت سياسة ترامب تتسم بتعزيز العلاقات مع حلفاء مثل المملكة العربية السعودية وإسرائيل، واتخاذ مواقف حازمة تجاه إيران، حيث أطلق سياسة “الضغط الأقصى” ضدها، بما في ذلك الانسحاب من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية. كذلك الأمر، اغتال قائد “فيلق القدس” الإيراني قاسم سليماني في 2020، ما وضع اللبنة الأولى لتراجع النفوذ الإيراني في كل من سوريا والعراق ولبنان وفلسطين واليمن…
مع بدء فترة رئاسته الثانية، من المتوقع أن يعزز ترامب سياسته الحازمة تجاه إيران في ظل استمرار التوترات الإقليمية والتهديدات التي تشكلها طهران على الأمن الأميركي وحلفائه. قد يتمثل الجزء الأهم في استراتيجية ترامب تجاه إيران في مواصلة تطبيق سياسة “الضغط الأقصى” التي أطلقتها إدارته في ولايته الأولى، مع تعزيز تلك السياسة بأدوات إضافية، مثل فرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على القطاعات الحيوية الإيرانية، بما في ذلك قطاع النفط، والضغط على الشركات والدول التي تتعامل مع طهران، كما تبني سياسة متشددة تجاه الأنشطة النووية الإيرانية، ودعم القوى المعارِضة للنفوذ الإيراني وللنظام الإيراني بذاته. في المجمل، سيظل ترامب يتعامل مع إيران بمنهجية متشددة تهدف إلى إضعاف نفوذها الإقليمي ومنعها من امتلاك أسلحة دمار شامل، مع التركيز على حماية المصالح الأميركية وحلفائها في الشرق الأوسط.
كذلك الأمر، من المتوقع أن تواصل إدارة ترامب في فترته الثانية تعزيز التقارب بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، وهو توجه بدأ في فترة رئاسته الأولى. في هذا السياق، يسعى ترامب إلى تكريس سياسة تحالفات استراتيجية في المنطقة تركز على التصدي للتوسع الإيراني وتعزيز الأمن الإقليمي، بما يصب في مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها. ترامب، الذي دعم في فترته الأولى تطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية مثل الإمارات العربية المتحدة والبحرين، سيركز في فترته الثانية على توسيع هذه الديناميكيات، مع إضفاء مزيد من الشرعية على العلاقة بين الرياض وتل أبيب.
في المقابل، شهدت سياسة ترامب السابقة تجاه سوريا توجهاً معقداً ومتحولاً، حيث أظهرت ملامح من التحولات الاستراتيجية التي تركزت بشكل أساسي على التعامل مع تنظيم “داعش”، والوجود الإيراني في سوريا. تبلورت هذه السياسة في تكثيف الهجمات العسكرية ضد المنظمات الإرهابية، كما التعاون مع حلفاء محليين كـ”قوات سوريا الديمقراطية”. إلا أن المفاجأة التي أثارت جدلاً واسعاً كانت قرار ترامب في عام 2019 بسحب جنوده من شمال شرق سوريا، مما سمح لتركيا بشن عملية “نبع السلام” ضد المقاتلين الأكراد. وعلى الرغم من الانتقادات الشديدة داخل الولايات المتحدة وخارجها، برر ترامب هذا القرار بقوله إن الولايات المتحدة قد حققت أهدافها في محاربة الإرهاب، وأن الوقت قد حان لتقليص الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، ولكن دون أن يعني ذلك أن واشنطن سحبت بالفعل كامل جنودها من سوريا.
مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، يتوقع أن تشهد سياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا دعماً لتأمين الاستقرار فيها، كما تحولاً نحو التعاون مع الحكم الجديد. وفي ظل استراتيجية “أميركا أولاً” التي يعتمدها، من المرجح أن يواصل ترامب تقليص الوجود الأميركي في سوريا والتركيز على تقليل التزامات بلاده العسكرية خارج حدودها، لا سيما في المناطق التي لا ترى فيها مصلحة استراتيجية مباشرة.
عملياً، ستكون سياسة ترامب تجاه سوريا في ولايته القادمة ذات طابع واقعي يميل إلى تقليل التورط العسكري، مع التركيز على تحقيق أهداف أمنية واقتصادية مباشرة من خلال أدوات دبلوماسية واقتصادية، والحفاظ على توازن القوى في المنطقة بما يخدم مصالح الولايات المتحدة وحلفائها وتحديداً إسرائيل.