تعالت أصوات التكبيرات، وجوه مرعبة غاضبة تصرخ وتأمرنا بالترجّل من سيارتنا. وجّه أحدهم فوهة سلاحه صوب رأس والدي وأطلق رصاصة أردته قتيلاً. شعرت أن العالم انفجر في رأسي. سقط أبي العجوز من دون أن يتلفّظ بحرف. صرخت أمي وأخواني لكنّهم وجهوا أسلحتهم صوبنا يأمروننا بالصمت. تفرّعت خطوط دماءه النازفة على التراب، فشعرت للحظة بأن الزمن تجمّد أمام ناظري، ولا أعرف لماذا صدقت نفسي أنني في حلم. تحسست جسدي لا شعورياً، كمن سقط في كابوس أبدي. عرفت في ما بعد أنني سأعيش كابوساً لا نهائي عندما أمرنا ذوو اللحى الطويلة بالرحيل من دون جثة أبي، من دون قبر وشاهدة أزورهما وأشكي لهما همي إن ضاقت بي الحياة يوماً. هكذا نحن العفرينيين، نحيا أبداً ألم الحرب وأمل عودة ما إلى عفرين، فلا نجني إلا خسارات أعظم وأعظم.
هربنا من قرية أحداث في منطقة الشهباء بريف حلب بعد سقوط نظام بشار الأسد وهجوم الفصائل المدعومة من تركيا على قرانا. نزحنا إلى مدينة القامشلي، فكانت قوافل أهالي قرى شهبا في طريقها إلى مناطق قوات سوريا الديموقراطية (قسد) في شرق الفرات بعد تأمين ممر إنساني باتفاق بين “قسد” وهيئة تحرير الشام، لكننا عبرنا طريقاً مغايراً عندما نفذ وقود سيارتنا بحثاً عن محطة وقود قريبة، فوقعنا في شراك عنفهم. أكملنا طريقنا بعد تأمين الوقود ونحن مثقلين بألم لا يُنسى.
تعرضنا للتهجير القسري للمرة الثانية، وكان الأولى في عام 2018 حين هاجمت فصائل مدعومة من تركيا، تسمى بـ”الجيش الوطني”، مدينتا عفرين واجتاحتها في عملية سمّتها “غصن الزيتون”، وهذه عملية جعلت أشجار زيتوننا الفضية حطاماً، وخضارها حطباً للبيع، وكم كانت جميلة. جذور أشجارنا في عفرين، تنمو فروعها في خيالنا. نُهبت بيوتنا وأراضينا فهربنا إلى قرية أحداث بلا حقائب، وها قد نُهبت بيوتنا ثانية من الفصائل ذاتها. وكالعادة، هربنا حاملين معنا الخسارة واليأس من الآتي، لا ندري متى نهرب ثالثةً وربما رابعةً.
موتانا بلا قبور، رحيلنا بلا حقائب، اتجاهاتنا بلا وجهة، وطننا عفرين خانها أمل عودة ما، ذكريات طفولتي تناديني: “أين أنت يا علي عبدو؟”. عندما كنت في الشهبا، كنت على بعد كيلومترات قليلة، أحضنها حين تهب رياح تهبّ من اتجاهها. أشم رائحة أشجار العنب والجوز تلفح وجهي، ربما أحرقها المحتلون، إذ أحرقوا مئات الأشجار ومساحات واسعة من الأحراج وتحولت إلى أراضٍ جرداء، وجعلوا من بيوتنا مقرات وثكنات عسكرية تعلو أسطحها رايات تركية، وأنا متأكد أنهم ارتدوا ملابسنا، حتى لو اختلفت مقاساتها، ومتأكد أنهم نهشوا مؤونتا – خصوصاً زيت الزيتون – التي نخصص قسماً منها للشتاء، ويدرّسون المناهج التعليمية باللغة التركية في المدارس كما لو أن عفرين لم تكن يوماً لنا، كما لو أننا لم نعش أدق تفاصيلها.
لم نسلم من عنف الفصائل المدعومة من تركيا بعد نزوحنا إلى أحداث. عشت سبع سنوات عجافاً مع عائلتي المؤلفة من خمسة أشخاص مع والديّ، رتبنا بيتاً جديداً وحياة جديدة، على أمل عودة ما بعد تحرير عفرين. اشترينا أثاثاً بسيطاً وثياباً جديدة لنبدأ آتياً جديداً بعد ما فقداناه كله، لكن عنف الفصائل دمّر ما بنيناه، فنزحنا ثانية إلى القامشلي. وفوق هذا الوجع كله، فقدت أبي.
أريد حيزاً جغرافياً في عفرين أستقر فيه، لأكتب شاهدة باسم أبي حتى لو كان قبراً خالياً. أريد إحساس العودة إليها. أشعر أنني سأفقد ما سأبينه ثانية، وأشعر أن البدايات كلها خسارات.
في هذه الذكرى السنوية لاحتلال عفرين، تهجرت قسراً في هذا التاريخ. أتساءل: “هل هذه ذكرى أم إحياء الموت كي لا يتحقق ما نحلم به؟”.