منذ اندلاع الحرب السورية في عام 2011، شهدت القاهرة تدفقاً كبيراً من السوريين الباحثين عن ملاذ آمن واستقرار بعيداً عن أتون الحرب. وقد تميزت مصر بكونها واحدة من أبرز الدول التي استقبلت السوريين، حيث تمكن هؤلاء من الاندماج سريعاً في المجتمع المصري دون مواجهة أزمات مجتمعية أو اقتصادية تُذكر، متخذين من مدن ومحافظات مصر المختلفة مقرات لهم ومستقرات لأسرهم وأعمالهم.
ومع سقوط نظام بشار الأسد، برزت قضية الخيارات المتاحة أمام السوريين في مصر بين العودة إلى الوطن أو البقاء فيها. إلا أن تلك الخيارات ليست أحادية، بل تتباين بشكل كبير تبعًا للظروف الفردية لكل أسرة أو شخص. فمن جهة، لا تفرض القاهرة أي سياسات تُجبر السوريين على مغادرة أراضيها، وتمنحهم حرية اتخاذ قراراتهم وفقًا لاعتباراتهم الشخصية، ومن جهة أخرى، تتباين الدوافع الاقتصادية والاجتماعية بين من يفضل البقاء ومن يفكر في العودة.
بيئة استثمارية جاذبة للسوريين
شهدت مصر خلال العقد الماضي نمواً ملحوظاً في الاستثمارات السورية، حيث أصبحت بيئة اقتصادية ملائمة لمشاريعهم، مما ساهم في استقرارهم وتوسيع نطاق نشاطاتهم. ووفقًا لبيانات الهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة، تخطت استثمارات السوريين في مصر حاجز الـ800 مليون دولار، مع تسجيل نمو في الاستثمارات خلال الشهور التسعة الأولى من العام الماضي بنسبة 11%، بقيمة إجمالية بلغت حوالي 60 مليون دولار. كما ارتفع عدد الشركات السورية المسجلة إلى 2659 شركة، مما يعكس حيوية النشاط الاقتصادي للسوريين في مصر.
تصريحات المهندس خلدون الموقع، رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر، أكدت أن العلاقات التاريخية بين الشعبين المصري والسوري لعبت دوراً محورياً في تعزيز هذا الوجود الاقتصادي. وقد أشار في في تصريحات تلفزيونية، إلى أن السوريين في مصر استفادوا من الفرص الاستثمارية المتاحة، مما ساعدهم على تحقيق الاستقرار المالي والمهني، وبالتالي تقليل الضغوط المتعلقة بفكرة العودة إلى سوريا في المستقبل القريب.
جمال بيومي، مساعد وزير الخارجية المصري السابق، أكد في تصريحاته لـ”963+” أن الدولة المصرية تعامل السوريين على أراضيها بمعاملة استثنائية تعكس الروابط التاريخية والسياسية بين البلدين. وأوضح أن مصر تدرك تماماً أهمية دور السوريين في التوازنات الاجتماعية والاقتصادية، مشدداً على أن القاهرة لن تفرض على أي منهم مغادرة أراضيها، خاصة أن العديد منهم أسسوا أعمالاً وأنشطة اقتصادية راسخة.
وأضاف بيومي أن الإجراءات الأمنية التي اتخذتها السلطات المصرية بخصوص حصول السوريين على موافقات أمنية مسبقة لدخول البلاد تأتي في إطار احترازات أمنية وليست سياسية، وذلك للحد من أي تسلل غير مشروع على خلفية الاضطرابات في سوريا. واختتم بيومي تصريحاته بتأكيده أن استضافة مصر لما يقارب المليون سوري على أراضيها ليس فقط تعبيراً عن الدعم الإنساني، بل أيضاً جزء من استراتيجية الأمن القومي المصري.
التحديات الاقتصادية والاستثمارية
الباحث الاقتصادي محمد أنيس، يرى أن الدور الاقتصادي للسوريين في مصر، رغم أهميته، لم يصل إلى مستوى الطموحات المتوقعة. وأوضح أن حجم الاستثمارات السورية في مصر، رغم تسجيله نمواً ملحوظاً، لا يزال محدوداً نسبياً مقارنة بالعدد الكبير للسوريين المقيمين.
وأشار في تصريحات لـ”963+” أن غالبية الأنشطة التي يعمل فيها السوريون تتركز في مشاريع صغيرة ومتوسطة ذات طابع محلي، مما يقلل من فرص تأثيرها المباشر على الاقتصاد القومي من خلال الأنشطة التصديرية.
ولفت أنيس إلى أن مصر لم تتعامل مع السوريين كلاجئين على مدار السنوات الماضية، بل اعتبرتهم جزءاً من نسيجها المجتمعي، مما يعكس سياسة حكيمة تجاه هذه القضية. وأضاف أن مصر لا تتلقى دعماً دولياً كبيراً من المنظمات العالمية مقارنة بدول أخرى، مما يجعل تعاملها مع السوريين بمثابة جهد ذاتي نابع من اعتبارات إنسانية وأمنية.
التحديات المرتبطة بالعودة إلى سوريا
أيمن زهري، أستاذ دراسات السكان والهجرة، يرى أن عودة السوريين إلى وطنهم في الوقت الحالي تواجه تحديات كبيرة، أبرزها الأوضاع الاقتصادية المتردية في سوريا، والتي قد لا تكون قادرة على استيعاب الأعداد الكبيرة منهم.
وأوضح في تصريحات لـ”963+” أن طول فترة إقامة السوريين في مصر، والتي تجاوزت عقداً من الزمن، أسهمت في اندماجهم بشكل كبير في المجتمع المصري، حيث نشأ جيل جديد من السوريين على الأراضي المصرية، وارتبط هؤلاء بمؤسسات تعليمية واقتصادية واجتماعية تجعل العودة أمراً معقداً.
كما أشار زهري إلى أن العودة الجماعية للسوريين ليست ممكنة من الناحية العملية، إذ تتطلب دراسات فردية لكل حالة وفقًا للظروف السياسية والأمنية داخل سوريا، وهي عملية قد تستغرق وقتاً طويلاً. ولفت إلى أن المشهد السياسي السوري بعد رحيل نظام الأسد لا يزال ضبابياً، مع مخاوف من ارتباطات الجهات الحاكمة بجماعات متطرفة وجهات خارجية مثل تركيا، مما يزيد من تعقيد ملف العودة.
وفي ظل هذه التحديات، يبدو أن خيار البقاء في مصر سيظل مرجحاً لفترة طويلة بالنسبة للسوريين. فبينما تحقق مصر نجاحات في توفير بيئة مستقرة لهم، يبقى المستقبل السوري مليئًا بالضبابية. ومع استمرار القاهرة في دعم السوريين كجزء من نسيجها الاجتماعي، يظل تعزيز التعاون بين الجانبين ركيزة أساسية لتحقيق مصالح مشتركة تخدم البلدين على حد سواء.