روج موسى*
في إزاء التطورات المتسارعة التي تشهدها سوريا منذ السابع عشر من نوفمبر العام المنصرم، يبرز الوجود العسكري الأمريكي كعامل حاسم في رسم ملامح المستقبل السوريّ؛ فمنذ سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر الماضي، وما تبعه من تجميد للدور الروسي وإخراج إيران من المسرح السوريّ ودخول إسرائيل، أصبحت القوات الأميركية في سوريا، البالغ عددها زهاء ألفي جندي، محور التوازن الإقليمي ليس في سوريا وحسب، بل في مجمل المنطقة.
داخل المساحة الكردية السورية بدأت العلاقات الأميركية تتطور مع الكرد في سوريا بشكل فعلي بعد معركة “كوباني” الشهيرة عام 2014 حين خاض المقاتلون الكرد حرباً وجوديّة ضد تنظيم داعش حتى تمكّنوا من دحره في آخر معاقله ببلدة الباغوز شمال سوريا عام 2019. منذ ذلك الحين، اعتبرت واشنطن الكرد شركاء استراتيجيين للتحالف الدولي في مسار مكافحة الإرهاب، الأمر الذي عزز من قدرات الكرد في شمال وشرق سوريا وثبّت حضورهم رغم تبدّل خرائط السيطرة العسكرية في عموم سوريا غير مرّة.
وعلى الرغم من اقتصار “الشراكة” بين التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية “قسد” على الجانب العسكري، إلا أن شكل العلاقة الأميركية مع قسد يتجاوز الجانب العسكري بصورة يمكن وصفها بأنها سياسية أيضاً. ولئن كانت تصريحات البنتاغون والبيت الأبيض تشدّدان على أن دور قواتهم الموجودة في شمال وشرقي سوريا يقتصر على “مكافحة داعش” فقط، فإن ما يبدو جلياً من تدخل الدبلوماسيين الأمريكيين في خفض التصعيد بين قسد وتركيا يخالف تلك التصريحات، هذا إلى جانب إشراف واشنطن على قضايا توحيد الصف الكردي السوري، ومحاولاتها للوصول إلى تفاهمات بين الإدارة الجديدة بدمشق وقسد.
مع بدء العد التنازلي لتسلم ترامب ولايته الثانية، تتزايد التساؤلات حول مستقبل الوجود الأميركي في سوريا وتأثيره على الكرد والمشهد السياسي الأوسع في المنطقة. ورغم أن تصريحات ترامب الأخيرة قد تعطي انطباعاً عاماً بأن “رؤيته” للشرق الأوسط هذه المرة قد لا تتطابق مع سياساته في نسختها الأولى، لا سيما قراره المفاجئ عام 2019 بسحب قواته من سوريا وما نجم عنه من شنّ تركيا عملية عسكرية تسببت باحتلال 120 كيلومتراً داخل مناطق سيطرة قسد، آنذاك وصفت قيادات كردية قرار الرئيس الأميركي بأنها “طعنة في الظهر”، والتي ما تزال آثارها تلقي بظلالها على توقعات الكرد المستقبلية مع ما يتوقّعونه من تبدّل كبير بين نسختي حكم ترامب.
ولعل ترامب، الذي “لا يهمه الصراع التركي الكردي” تجاهل هذا الصراع في مراتٍ عديدة وأبدى الدعم مرات أخرى لقوات سوريا الديمقراطية، يقف أمام وضع مختلف في هذه الأثناء، إذ إن الوجود الأمريكي في سوريا بات يشكّل عامل توازنٍ إقليمي حسّاس تدخّل في حساباته مسائل مثل أمن إسرائيل ووصول جماعةٍ إسلاموية لسدّة حكم دمشق، واحتمالية استعادة داعش لعافيته مستفيداً من الفراغ الأمني في المنطقة.
إعادة واشنطن حساباتها في الحقبة الترامبية الجديدة قد يوجد توازناً لا يستفيد منه الكرد فحسب، ذلك أن بإمكان دمشق أيضاً توظيف الوجود الأميركي للتخفّيف من حدة نفوذ تركيا المباشر ضمن هياكل الحكم المستقبلية وتصوّراتها أنقرة لعملية إعادة بناء الجيش السوري الجديد، فقد ترغب دمشق بمساعدة مباشرة من تحالف عربيٍ تقوده السعودية ومصر والإمارات، التي لا تزال متخوفة على مستقبل سوريا، لأسباب تخصّ أمنهم القومي.
تدرك واشنطن أن وجود قواتها في سوريا يحول دون العودة الإيرانية والروسية، ويحد من تفرد تركيا، إلى جوار الحفاظ على أمن إسرائيل. هذا الوضع يساعد شركاء التحالف الدولي، خاصة الرياض وأبو ظبي، في التحرك مباشرة لحل القضايا الشائكة في الداخل السوري فيما خص قضايا التمثيل السياسي وصياغة الدستور وإعادة الإعمار، مع احتمال تخلي الدوحة عن تنسيقها القوي مع تركيا في حال وجود توافق عربي واضح وصارم.
على خلفية اللقاء الذي جمع بين قيادات هيئة تحرير الشام وقوات سوريا الديمقراطية في مطار الضمير العسكري بتنسيق من الجانب الأميركي مطلع الشهر الجاري، بدى أن واشنطن تعمل على تمكين الكرد من المشاركة في إطار الحكومة السورية المقبلة، رغم مخاوف أنقرة الأمنية. هذا الخيار الذي سيشكل نقطة قوة للحكومة السورية، التي ستستفيد من القوة العسكرية لقسد وأسلحتها الثقيلة، خاصة بعد تدمير تل أبيب أكثر من 80% من ترسانة الجيش السوري. وقد يضمن هذا الدمج العسكري الحقوق الدستورية لمكونات شمال سوريا الإثنية، وقد يساهم في رفع تدريجي للعقوبات وإعادة سوريا للحضن العربي بعد سنوات من تبعية نظام الأسد لموسكو وطهران.
في المقلب الآخر، يشكل انسحاب القوات الأميركية خطراً على الوجود الكردي في البلاد. إذ لا تخفي تركيا رغم التصريحات الأخيرة لأقطاب حكومتها الداعية للتفاهم مع عبد الله اَوجلان زعيم حزب العمال الكُردستاني نيّتها شن عمليات عسكرية ضد الكرد في سوريا بذريعة “وجود مناصري أوجلان” فيها. وبطبيعة الحال، تتجاوز الطموحات التركية مجرد إخراج عناصر الكردستاني من سوريا؛ فالمشكلة الحقيقية، من وجهة نظر أنقرة، هي الوجود الكردي ذاته. وتعدّ تجربة احتلالها لمنطقة عفرين عام 2018 مثالاً صارخاً على سياسات تركيا في المناطق التي تسيطر عليها، حيث أصبحت عفرين تشهد انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان وتغييراً ديموغرافياً كبيراً، مع تهجير 300 ألف من سكانها الكرد الأصليين وفرض الهوية التركية عليها بشكل كامل.
في هذه الغضون، تقف سوريا أمام تحدّيين: إما أن نشهد انسحاباً أميركياً كاملاً، بالشكل الذي يفتح الباب أمام عمليات عسكرية إقليمية واسعة مرة أخرى وتعافي التنظيمات الإرهابية مجدداً، أو أن تحافظ واشنطن على وجودها الاستراتيجي لخلق توازن إقليمي يمنع التمدد الإيراني والروسي ويحمي المكونات المحلية ويحول دون تفشي الإرهاب.
داخل هذه المعادلة يأمل الكرد بأن يضمنوا حقوقهم الدستورية في سوريا الجديد وتحقيق تسوية سياسية مع الإدارة السورية الجديدة لاسيما في مجال بناء الجيش السوري الجديد، إضافةً لإيجاد تسوية فعّالة مع تركيا تفضي إلى علاقات حسن جوار حقيقية. يبقى أن كل ذلك يتوقّف على نهج واشنطن السوري الجديد.
*كاتب وصحفي سوري وشريك مؤسس لموقع 963+.
*نشرت هذه المقالة بعد نشرها في صحيفة “النهار” اللبنانية. (هنا)