تعد المسألة الكردية واحدة من أعقد القضايا التي تواجه تركيا على المستويين الداخلي والإقليمي، وأكثرها وضوحاً على مستوى التناقض، خصوصاً في ما بين سياساتها الداخلية وديناميات الحركة السياسية في الخارج، وارتباط ذلك بعملياتها الميدانية ضد الأكراد في شمال شرق سوريا خلال السنوات الأخيرة.
يعيش في تركيا بين 15 و20 مليون كردي، يشكلون أقلية كبيرة في البلاد. وقد واجهوا عبر التاريخ تمييزاً ثقافياً ولغوياً، فاستخدام اللغة الكردية ممنوع في الحياة العامة. لكن، في العقدين الأخيرين، سعت الحكومات التركية المتعاقبة إلى تحسين علاقاتها بالأكراد من خلال مبادرات عدة، مثل “عملية السلام” التي أطلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في عام 2013.
وبحلول عام 2015، بعد تصاعد التوتر بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه أنقرة منظمةً إرهابية، عاد الصراع المسلح إلى الساحة، وتصاعدت معه الاعتقالات والإجراءات الأمنية ضد السياسيين والناشطين الأكراد، ما أدى إلى تقويض الثقة بين الطرفين.
إقليمياً، اتخذت تركيا من أكراد سوريا، وتحديداً من “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، موقفاً متشدداً وعنيفاً، بحجة أنها امتداد لحزب العمال الكردستاني. وكانت هذه ذريعتها لشن عدة عمليات عسكرية، أبرزها عمليات “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام”، بغية منع الأكراد من إقامة كيان مستقل على حدودها الجنوبية، فيما تقول أنقرة إن الهدف من هذه العمليات حماية أمنها القومي ومنع التهديدات الإرهابية.
غير أن ثمة رؤية أخرى تشي بأن هذه الهجمات تتجاوز مسألة “أمن أنقرة القومي” إلى محاولة فرض سيطرة جيو-سياسية في محيطها. وبالتالي، تشهد تركيا حراكاً مكثفاً نحو دينامية جديدة بغية تفكيك المشكلة الكردية، من خلال الحوار مع عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني الموقوف في تركيا. كما التقى أردوغان حليفه دولت بهشلي، رئيس حزب الحركة القومية، الذي أطلق مبادرة لقاء أوجلان ودعوته للحديث أمام البرلمان وإعلان حل الحزب، مقابل النظر في إطلاق سراحه.
نظام شمولي
ثمة تناقض واضح بين خطاب السلام مع الأكراد الذي تقدمه أنقرة في الداخل التركي، وسياساتها القاسية ضدهم في سوريا، يواكبه تناقض واضح آخر في السياسات المتبعة، ويكشف عن أهداف كثيرة وراء ذلك تتصل بوضع السلطة في الداخل، وتمتد نحو آفاق التغيير في الشرق الأوسط الذي تتسع رقعته خلال الفترة الأخيرة وتشتد وطأته على نظم سياسية عديدة.
في هذا السياق، يقول بردان أوزتورك، المتحدث باسم العلاقات الخارجية لحزب الشعوب للمساواة والديموقراطية، لـ”963+”: “منذ استيلاء أردوغان على السلطة في تشرين الثاني/نوفمبر 2002، حاول مراراً إعادة تصميم السياستين الداخلية والخارجية لتركيا. ولسوء الحظ، ورغم وعوده بالديموقراطية وإزالة الوصاية العسكرية، فقد أنشأ نظاماً شمولياً لا يشبه أي نظام آخر في تاريخ الجمهورية، فأصبحت المؤسسات التي ينبغي أن تكون مستقلة، من القضاء إلى وسائل الإعلام، أدوات في يد حكومة أردوغان”.
وحين ترتفع وتيرة ردات الفعل الاجتماعية، وتكتسب المعارضة التركية زخماً، تحاول حكومة أردوغان الحفاظ على ناخبيها باعتماد خطاب استقطابي كلاسيكي. وبين عامي2013 و2015، حين كانت المسألة الكردية في تركيا، والتي تعني عدم منح الشعب الكردي حقوقه وعدم الاعتراف بخصوصيته، على وشك أن تتطور إلى مفاوضات وتقترب من الحل، داس أردوغان – إن جاز التعبير – آمال التوصل إلى السلام في البلاد، بقوله: “أنا لا أعترف بعملية الحل واتفاقية دولما بهجة”.
عقدة كوباني
منذ استئناف الصراع التركي – الكردي في تموز/يوليو 2015، بدأت أنقرة خطة شاملة لقمع الأكراد، وما زالت هذه الخطة سارية المفعول، إذ تتعرض كافة مؤسسات وإنجازات الأكراد على الصعيد السياسي والاجتماعي والثقافي والإداري المحلي لهجمات من حكومة أردوغان. وعلى الجانب الآخر من الحدود، تُستهدف كل مكاسب الأكراد في روجافا وجنوب كردستان أيضاً.
أنشأ الأكراد السوريون قوات دفاع ذاتي لحماية شعبهم في المنطقة التي يقيمون فيها منذ بداية الحرب الأهلية السورية في عام 2011. وفي عام 2014، تطورت مقاومة عنيفة ضد حصار تنظيم “داعش” المصنف إرهابياً في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول أخرى لكوباني، واختارت معظم شعوب وحكومات العالم الوقوف خلف الأكراد. وبفضل الدعم الجوي للتحالف الدولي، كُسر حصار “داعش” لكوباني، وانطلقت عملية محاربة التنظيم.
يقول أوزتورك: “في ذلك الوقت، اعتمد أردوغان في كل حساباته على سقوط كوباني. نظم أكراد تركيا تظاهرات احتجاجية ضخمة ضد أردوغان، الذي كان يأمل في ارتكاب مجزرة ضد شعب الكردي. ومن غير المتوقع أن تؤدي الحدود التي رُسمت منذ 100 عام بين الأكراد في التركيا والأكراد في سوريا إلى إضعاف الروابط التاريخية والاجتماعية. علاوة على ذلك، رغم أن أوجلان من شمال كردستان، فإنه قضى في سوريا فترة طويلة من سنوات نضاله، وأقام علاقة خاصة مع أكراد سوريا، وأدت تعاليمه دوراً رائداً في التنظيم السريع للأكراد السوريين، وتأسيس قوات الدفاع الذاتي الخاصة بهم، لذلك فإنه يُعد هو أيضاً زعيم للأكراد السوريين والشعوب التي تناضل مع الأكراد، خصوصاً أنه قدم ملاحظات مهمة لنماذج التعايش في العلاقات الكردية العربية، ورسم خريطة طريق فريدة من نوعها حول كيفية تحقيق ذلك”.
نموذج التعاون السلمي
ويضيف أوزتوك: “أُنشئ نموذج الكانتون ومبادئ التمثيل المتساوي المطبقة في شمال شرق سوريا اليوم بحسب نظر أوجلان. وبصراحة تامة، المكان الوحيد في الشرق الأوسط حيث يُطبّق نموذج التعايش السلمي على نحو شامل هو منطقة الحكم الذاتي في شمال شرق سوريا”.
وبحسبه، أراد أردوغان تحقيق مبدأ التعايش المشترك في الشرق الأوسط، وفي تركيا طبعاً. ورغم أن هذا المثل عزز الإرادة الكردية، فإنه كشف أيضاً عن معادلة متعددة الأبعاد يتدخل فيها اللاعبون الدوليون، ما يفرض على أردوغان إضافة تغييرات في نهجه تجاه القضية الكردية، “وضروري أن نلاحظ التغيير في الخطاب والخطوات العملية التي تكشف إن كان أردوغان صادقاً في حلّ القضية الكردية أم لا، خصوصاً أن أوجلان أعلن صراحة أنه مستعد للتوصل إلى حلّ وإقامة حياة متساوية وحرة معاً”.
ويختم أوزتورك بالقول: “في هذه المرحلة، نحتاج إلى توحيد الرؤية والخطاب وعمل الحكومة لصالح السلام، وهذا الموقف يشمل بطبيعة الحال التعامل مع روج آفا. بعبارة أخرى، صنع السلام مع الأكراد في شمال كردستان من دون وقف القتال مع الأكراد في سوريا من شأنه أن يقوض بناء الثقة المتبادلة. ولهذا السبب، نتوقع من أردوغان أن يؤسس لخريطة طريق عملية وللغة سلام. كما يجب أن ندرك أن سياسة الإنكار والإبادة ضد الأكراد لم تعد لها أي أساس أو فائدة لأحد، ويجب تطوير خطاب سلمي وفقاً لذلك”.
معارضة مشككة
من جانبها، تقول نسليهان تشيفيك، الأستاذة المساعدة في جامعة فرجينيا بالولايات المتحدة، إنه منذ عام 2015، تبنت الحكومة التركية نهجاً قومياً تقليدياً تعزز بإدراج حزب الحركة القومية في الحكومة ودوره كمكون أساسي في تحالف الشعب، مضيفةً لـ “963+”: “إن التحول المفاجئ الأخير في الموقف التركي لفت الانتباه. وجدير بالملاحظة بشكل خاص اقتراح بهشلي دعوة أوجلان إلى البرلمان، فهذه خطوة غير عادية في سياق كانت فيه القومية لفترة طويلة جانباً أساسياً في الخطاب السياسي في تركيا”.
وبحسب تشيفيك، وصفت الحكومة وحلفاؤها هذا التحول بأنه جزء من عملية سلام جديدة، “ففي البداية، تم تأطير الدعوات إلى السلام في سياق الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، مع المخاوف من أن تشكل إسرائيل تهديداً لتركيا، ثم توسعت منذ ذلك الحين واتخذت أبعاداً أوسع. ومؤخراً، تحول التركيز إلى الصراع في سوريا. قابلت المعارضة هذه التطورات بالتشكيك، من منطلق أن هذه العملية تُستخدم أداة سياسية لتكون منصة لأردوغان من أجل تأمين ترشيح جديد له، بحجة تقديم دستور جديد، زاعمةً أنه من خلال إشراك الناخبين الأكراد والحزب الديموقراطي، يمكن أردوغان تأمين 400 مقعد برلماني، وبالتالي تمرير التعديلات الدستورية من دون الحاجة إلى استفتاء شعبي”.
درع واقٍ لإسرائيل!
خارجياً، تتقاطع هذه العملية مع المصالح الجيو – سياسية التركية في ما يتعلق بالأكراد، “وتزعم المعارضة أنها ليست استراتيجية وطنية، بل خطوة متأثرة بالسياسة الأميركية، والهدف منها استخدام الأكراد في المنطقة جزءاً من استراتيجية أوسع لإنشاء درعٍ واقٍ لإسرائيل. وبغض النظر عن الشكل الذي قد تتخذه، يُعتقد أن البنية الكردية العلمانية تتوافق مع الأهداف الاستراتيجية لإسرائيل”، بحسب تشيفيك، مضيفةً: “قد تبدو العمليات الميدانية التركية الجارية في سوريا مناقضة مع عملية السلام الجارية داخلياً، لكنها ليست كذلك بالضرورة. فالمفاوضات في العملية الداخلية جارية على قدم وساق، حيث تسعى جميع الأطراف إلى اتخاذ مواقف قوية على طاولة المفاوضات، لذا يمكن تفسير هذه العمليات العسكرية على أنها رسالة من تركيا إلى الأكراد في سوريا، تشير إلى ضرورة تجنب تحريض الأكراد داخل تركيا، والامتناع عن المطالبة بالحكم الذاتي، والتوقف عن دعم الإرهاب. كما يمكن النظر إليها أيضاً على أنها دعوة للأكراد لإظهار الثقة من خلال نزع سلاحهم وتسليمه للحكومة السورية المركزية، وفي مقابل ذلك تعزز تركيا الثقة المتبادلة”.
وعلى الرغم من الانتقادات التي تقدمها المعارضة والأوساط المختلفة، يبدو أن الحكومة تدير هذه العملية بفعالية، كما يبدو أن حزب العدالة والتنمية، الذي عانى من خسائر كبيرة في الانتخابات المحلية الأخيرة، استعاد زخمه السياسي، وبرأي تشيفيك، إذا نجحت الحكومة في هذا الخطة التصالحية الداخلية، “فقد يسجل التاريخ لأردوغان أنه الزعيم الذي حقق السلام في تركيا، إلا أن استدامة هذا الزخم تعتمد إلى حد كبير على التطورات الاقتصادية وموقف إدارة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، وجدير بالملاحظة أن ترامب يفضل التركيز على قضايا أخرى غير الشرق الأوسط، فتصريحاته بشأن غرينلاند وبنما وكندا، أكانت واقعية أم لا، تشير إلى أجندة أوسع نطاقاً، ويبدو أن جزءاً كبيراً من هذه الأجندة يدور حول الصين، إذ ينظر ترامب إليها باعتبارها قضية اشد إلحاحاً من الشرق الأوسط”.
وفي ما يتعلق بتناقضات السياسة التركية نحو المسألة الكردية، يشير الأكاديمي الكردي زارا صالح إلى أن في ذهنية أنقرة السياسية محددات للخطر الوجودي، يبدو واضحاً على مستوى الدولة العميقة. ويقول صالح لـ”963+” إن ذلك موجود بنفس الدرجة لدى الأحزاب التركية، “وهذا متصل بالرؤية نفسها، كون تركيا تعتبر حصول الكرد على حقوقهم، بالفيدرالية أو بالحكم الذاتي، في أي قسم من أجزاء كردستان، خطراً يهدد وجودها.
فوبيا تركية
يضيف صالح: “يصل عدد الأكراد في تركيا إلى نحو 30 مليوناً، وحصولهم على حكم ذاتي يعني تفكك الدولة التركية، ومن هنا تتكون الفوبيا التركية. ولهذا، تحاول تركيا قدر مستطاعها إتباع سياسات ضد هذه المخاوف والهواجس غير الطبيعية بمحاربة الأكراد وقضيتهم، وهذا المشهد واضح من خلال المسار الذي يتخذه الحراك السياسي الناشط في داخل تركيا، وتصريحات كبار السياسيين والمسؤولين الأتراك، ودعوة أوجلان إلى البرلمان، وينبغي فهم هذا النشاط من خلال وعي أنقرة بملامح التغيير في المنطقة كلها، وضرورة العمل نحو الخروج من هذه الأزمة، وهذا يعني أن لتركيا هدف داخلي هو حاجتها إلى تغيير دستوري يهدف إلى السماح لأردوغان بالترشح لولاية رئاسية جديدة، وهذا يعني استطراداً أنه بحاجة إلى أصوات الأكراد لتحقيق ذلك”.
ووفقاً لصالح، يتضح هدف ثانٍ من هذه المبادرة، “من خلال محاولة الضغط على ’قسد‘، لأن تركيا تقول إن ’قسد‘ تابعة لحزب العمال الكردستاني، وبالتالي إذا أجرينا عملية السلام وأطلقنا سراح أوجلان، فبإمكانه أن يؤثر ’قسد‘ لتسلّم سلاحها… وهذا الأمر غير المنطقي”.
في المقابل، يلفت صالح إلى أن المقاربة التركية في سوريا تحمل تناقضاً صريحاً، “فتركيا تحتل نحو 15 في المئة من الأراضي السورية تضم مناطق كردية، وهي تعد مسؤولة عن إدخال الآلاف من الإرهابيين إلى الداخل السوري، وتدعم ما يسمى الجيش الوطني السوري، المؤلف من فصائل جهادية تكفيرية تحارب الأكراد”.
أخيراً، تتحرك تركيا بوتيرة متسارعة منذ سقوط نظام بشار الأسد لفرض سياسة أمر واقع في الجغرافيا السورية التي يتواجد فيها الأكراد، خصوصاً في منطقتي سد تشرين وكوباني. ويلفت صالح إلى أن أردوغان يتحرك بسرعة حاسمة لفرض رؤيته عسكرياً، “ليستطيع تكريسها سياسياً مع استلام ترامب مهامه رسمياً في 20 كانون الثاني/يناير الجاري. كما يهدف أردوغان أيضاً لتقديم نفسه إلى واشنطن بديلاً عن ’قسد‘ في سوريا، فيُضحي الحليف الأبرز لواشنطن وقوات التحالف الدولي في مواجهة عناصر ’داعش‘ وحماية السجون التي تأويهم”.