بيروت
مثّل فرار الرئيس السوري السابق بشار الأسد من دمشق، والإعلان عن سقوط النظام السوري، منعطفاً في تاريخ المنقطة برمتها، إذ أعادا خلط الأوراق، أو بالأحرى أعادا ترتيبها، وخصوصاً علاقات سوريا بدول الجوار، وأولها العلاقات السورية –اللبنانية التي تشهد منذ خمسينيات القرن الماضي أزمات وتعقيدات، كان أكثرها نفوراً تدخل النظام السوري السابق بشكل سافر في السياسة الداخلية اللبنانية قرابة ثلاثة عقود.
يقول النائب اللبناني المستقل إيهاب مطر لموقع “963+” إن سقوط نظام الأسد ينعكس إيجاباً على لبنان، “فنحن دفعنا ثمناً لوصاية مجرمة علينا، خصوصاً على مدينة طرابلس بالشمال اللبناني، فهو المسؤول عن مجزرة التبانة وتفجير مسجدي التقوى والسلام، وتنفيذ اغتيالات عدة، على راسها اغتيال الحريري، والمكان الطبيعي لمرتكب هذه الجرائم هو السجن، وقد ختم مسيرته بالهروب وترك مؤيديه خلفه وكأنه باعهم”.
توّج التدخل السوري في لبنان بوجود عسكري مباشر بدأ في عام 1976 تحت ستار “قوات الردع العربية” بحجة الفصل بين المتقاتلين في الحرب الأهلية اللبنانية، وانتهى في نيسان/أبريل 2005 بانسحاب الجيش السوري من لبنان تحت ضغط دولي، بعد اغتيال رئيس الحكومة اللبناني رفيق الحريري، وهو الاغتيال الذي توجّه إلى بشار الأسد أصابع الاتهام بالضلوع فيه.
علاقات جديدة
تُجمع التقارير الإعلامية على وجود مساع حثيثة يبذلها الطرفان اللبناني والسوري لتدشين مرحلة جديدة من العلاقات الثنائية، بعيداً عن شعارات “وحدة المسار والمصير” و”تلازم المسارين” و”شعب واحد في بلدين”، التي سادت في أيام نظام الأسد، الأب والابن.
يقول مطر: “سقوط النظام السوري يفتح الباب مجدداً لأفضل العلاقات بين لبنان وسوريا، من دولة إلى دولة، ونرى في الحكم الجديد في دمشق فرصة ذهبية لسوريا الحرة الشرعية التي تعمل من أجل السوريين كلهم”.
وكان الوزير اللبناني السابق وليد جنبلاط أول من حجز ورقة الصلح مع سوريا الجديدة، فبادر إلى زيارة دمشق ولقاء قائد رئيس الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، داعياً إلى علاقات سورية – لبنانية “من دولة إلى دولة”، بحسب تصريح إعلامي له بعد الزيارة، حتى أنه سلّم الشرع وثيقة ضمّنها رؤية خاصة لبناء علاقة بينية سليمة بين الدولتين. حينها، صرّح الشرع بأن سوريا تقف على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين، وتحترم سيادة لبنان واستقراره، متمنياً ترسيخ علاقات استراتيجية مع لبنان.
وبحسب مطر، ما يقوم به الشرع يبشر بالخير للسوريين، “فقد أظهر انفتاحاً مميزاً ونقل سوريا إلى مرحلة جديدة جذبت المجتمع الدولي، وعلى لبنان أن يكون أول المنفتحين على الحكم الجديد، خصوصاً أنه حظي بغطاء عربي من التواصل، وأي خير لسوريا ينعكس على لبنان إيجاباً”.
ملفات واشتباكات
واليوم، الحديث يتمحور حول زيارة رسمية لبنانية إلى سوريا، يقوم بها رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، من دون تحديد موعد بعد للزيارة. يضيف كمطر: “بين لبنان وسوريا ملفات عالقة لا بدّ من طرحها ومعالجتها من أجل علاقة أخوة بين بلدين تجمعهما حدود واحدة”.
أبرز هذه الملفات ما يخص المعتقلين اللبنانيين في سجون النظام البائد، والنازحين السوريين في لبنان، وترسيم الحدود البرية، وتنظيم المرور الجمركي للأفراد والبضائع بين البلدين، ومنع تهريب البشر والمخدرات والسلاح على طول الخط الحدودي.
وكانت هذه الاشتباكات قد اندلعت في المنطقة الحدودية بين بلدتي معربون اللبنانية وسرغايا السورية الجمعة 3 كانون الثاني/يناير الجاري، شارك فيها عناصر فوج الحدود البري الرابع في الجيش اللبناني ومهربين سوريين، ما أسفر عن إصابة ملازم ونقيبين وعنصر من الجيش اللبناني، وذلك بعد إغلاق معبر غير شرعي استناداً إلى خرائط عسكرية يملكها الجيش اللبناني، يقع على بُعد 800 متر من الحدود الرسمية بين البلدين. وفي اليوم التالي، دارت اشتباكات في سرغايا داخل الأراضي السورية بين المهربين المسلحين في البلدة وقوة من “هيئة تحرير الشام” أرسلت إلى المنطقة لوقف الاشتباكات.
مستجدات سياسية – أمنية
من جانب آخر، يقول الكاتب السياسي والصحافي محمد علوش لـ”963+”: “إذا اعتبرنا ان زيارة جنبلاط هي الأولى إلى سوريا، تكون زيارة فارس سعيد وزملائه هي الثانية، اما عن الزيارة الرسمية الثانية فالدعوة موجهة إلى ميقاتي لزيارة سوريا، وهناك أيضاً فكرة عن زيارة وزير الخارجية إلى دمشق… هذا من الناحية السياسية، وأعتقد أن الزيارة المقبلة ستكون حكومية اللبنانية من أجل التنسيق في الملفات المشتركة بين البلدين، وربما تكون الزيارة التالية أمنية بسبب ما جرى على الحدود من مواجهات بين مسلحين سوريين والجيش اللبناني، خصوصاً في بعلبك”.
وكان زياد المكاري، وزير الإعلام في حكومة تصريف الأعمال قد قال بعد جلسة لمجلس الوزراء اللبناني أمس الثلاثاء: “سيكون هناك زيارة قريبة إلى سوريا برئاسة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، لكن الموعد لم يحدد بعد”.
يضيف علوش: “الزيارة الثانية سترسمها مستجدات الأمور نسبة لأهميتها. فالأهمية الأمنية قد تفرض نفسها في الأيام المقبلة، وربما تكون الزيارة السياسية هي التي تفرض نفسها”، خاتماً بالقول: “أرجح أن تكون الزيارة الثانية الرسمية هي زيارة حكومية من دون تحديد مستوى التمثيل، وممكن أن تكون على مستوى رئيس الحكومة نفسه، أو وزير الخارجية، أو ربما يتوجد وفد وزاري إلى دمشق، وسيكون الملف الأمني على الحدود على رأس الملفات قيد الدرس”.
معاهدات للتعديل
أسئلة كثيرة مطروحة على محك العلاقات اللبنانية – السورية الجديدة، خصوصاً أنها تقع تحت عبء إرث ثقيل من الوصاية السورية، إذ لم تكن علاقات رسمية بل إنما علاقات مع مراكز قوى لبنانية، مرتبطة مصلحياً بمواقع قوى مقربة من دوائر القرار في دمشق، في أيام النظام السابق، وأهم هذه الأسئلة تتعلق بـ 42 اتفاقية صيغت أغلبها بعد عام 1990، ولم تجد طريقها إلى التطبيق، أبرزها معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق، واتفاقية الدفاع والأمن واتفاق التعاون والتنسيق الاقتصادي والاجتماعي واتفاق نقل الأشخاص المحكوم عليهم بعقوبات سالبة للحرية.
تحتاج هذه المعاهدات إلى إعادة نظر مع سقوط النظام السوري، وهذا ملف لا يبحث إلا رسمياً بين حكومتين، لإدخال تعديلات تلائم التحولات السياسية والاقتصادية والأمنية في سوريا.