قد تكون المرة الأولى التي يُنتخب فيها رئيس للجمهورية اللبنانية من دون أي دور سوري حقيقي. فمنذ 35 سنة على الأقل، اعتادت الحياة السياسية اللبنانية، على دور تدخلي لسوريا في الشؤون اللبنانية، لا بل شهدت السنوات الممتدة من عام 1990 إلى العام 2005، حكماً سورياً مباشراً للبنان، وبشكل طال كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والأمنية.
مع فوز قائد الجيش اللبناني جوزف عون رئيساً بعد حوالى سنتين من الفراغ الرئاسي، تبدو الساحة السياسية اللبنانية أمام مشهد جديد وغير مسبوق. الدور السوري، الذي كان حاسماً في كل الاستحقاقات الرئاسية منذ اتفاق الطائف، قد أصبح معدوماً تماماً. لم يكن هناك أي ضغط أو وساطة سورية تؤثر على العملية الانتخابية، بل إن العديد من النواب الذين كانوا يدورون في فلك دمشق، وجدوا أنفسهم أقرب إلى الرؤية السعودية وإرادتها، في انقلاب واضح على الاصطفافات التقليدية.
إن الفراغ الذي أرساه خسارة “محور الممانعة” في سوريا امتد إلى لبنان، فمع مغادرة بشار الأسد للسلطة وهروبه مهرولاً إلى روسيا، قوِّض الدور السوري بشكل كامل في لبنان. لا بل إن حلفاء سوريا من اللبنانيين انذوا وباتوا قليلي الحركة والفِعل، وحتى التصريح الإعلامي.
على صعيد آخر، شهدت الانتخابات غياباً كاملاً للدور الإيراني. لم يظهر أي تدخل مباشر من طهران أو من سفيرها في بيروت طوال الشهر الماضي. لا نصائح، لا مبادرات، ولا محاولات للتأثير في المواقف الداخلية. بدا وكأن إيران قد اختارت الوقوف على الحياد، وهو موقف يعكس تبدلات إقليمية واسعة، أبرزها تراجع نفوذها التقليدي في سوريا كما على الساحة اللبنانية. هذا الغياب الإيراني يُعدّ خسارة سياسية واضحة لحزب الله، الذي كان يعتمد على دعم إيران في كل مفاصل الاستحقاقات الكبرى، لا سيما تلك التي تتعلق برئاسة الجمهورية.
في المقابل، تعاظم الدور السعودي والأميركي بشكل غير مسبوق. الرياض بشكل أساسي، ومن ثم واشنطن لعبتا دوراً أساسياً في توجيه الانتخابات نحو قائد الجيش، حيث نجحتا في حشد التأييد الداخلي والخارجي لخيار جوزف عون. كما التحقت قطر وفرنسا بالرؤية السعودية والأميركية وتخلت عم مرشحيها، ما جعل جوزف عون مرشحاً توافقياً مدعوماً من أبرز اللاعبين الدوليين والإقليميين. دعمت فرنسا اللواء الوزير السابق زياد بارود للرئاسة في السابق، فيما دعمت قطر اللواء الياس البيسري، لكنهما تخليا عنهما بعد الدفع السعودي باتجاه جوزف عون، وبعد قدوم الموفد السعودي الخاص إلى لبنان يزيد بن فرحان، ومكوثه فيه لأيام.
هذا “التعاون” الدولي المقاد من السعودية يعكس تغيّراً عميقاً في المعادلات الإقليمية والمحلية، حيث أصبحت الرياض صاحبة الكلمة الفصل في الملف اللبناني، وهو ما أضعف بشكل كبير الأدوار التقليدية الأخرى.
انتخاب جوزف عون يمثل أيضاً التزاماً بتطبيق القرارات الدولية، خصوصاً تلك المرتبطة بالسيادة اللبنانية، وهو ما يُعدّ خسارة كبيرة لحزب الله الذي لطالما سعى إلى التملص من هذه القرارات أو الالتفاف عليها. فالرئيس الجديد هو قائد الجيش الذي حرص على إبقاء المؤسسة العسكرية بعيدة عن التجاذبات السياسية، وكان دوماً ملتزماً بالمحافظة على الاستقرار الداخلي وضبط الحدود، وله علاقات وثيقة جداً بالرياض كما مع واشنطن.
عملياً، إن انتخاب جوزف عون يُظهر بوضوح أن لبنان يدخل مرحلة سياسية جديدة. إنها مرحلة تتميز بتراجع الأدوار التقليدية، وتعاظم نفوذ قوى إقليمية ودولية أخرى، وابتعاد المشهد السياسي عن الاصطفافات التي حكمته لعقود. لكن يبقى السؤال الأكبر: هل سيتمكن جوزف عون من ترجمة هذا التوافق الدولي والإقليمي إلى استقرار داخلي يعيد للبنان دوره الذي فقده؟
في المرحلة المقبلة، تقع على عاتق الرئيس جوزف عون مسؤوليات جسيمة لرأب الصدع الداخلي وإعادة بناء الدولة على أسس وطنية جامعة. أولى هذه المسؤوليات تتمثل في التزامه الصارم بتطبيق القرارات الدولية، وفي مقدمتها القرار 1701، الذي ينص على ضمان سيادة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها وتفكيك منظمة “حزب الله”. هذا الالتزام سيُظهر جدية الدولة اللبنانية في استعادة دورها الفاعل على الساحة الدولية، كما سيعيد الثقة بالمؤسسات الرسمية، لا سيما الجيش الذي يُعتبر أحد أبرز ركائز الدولة.
لكن تطبيق القرار 1701 ليس مهمة سهلة، إذ يتطلب التنسيق مع القوى السياسية الداخلية لضبط الحدود الجنوبية وتجنب أي تصعيد محتمل مع إسرائيل أو مع “حزب الله” على حدٍ سواء. كما يستدعي تعزيز التعاون مع قوات الأمم المتحدة (اليونيفيل) لضمان تنفيذ بنود القرار بحزم، دون أن يتحول هذا التعاون إلى مصدر توتر داخلي.
إضافة إلى ذلك، سيكون مطلوباً من جوزف عون فتح قنوات حوار جديدة مع سوريا. فرغم غياب الدور السوري عن الانتخابات، تبقى العلاقات مع دمشق ضرورية في ملفات حساسة، مثل ملف اللاجئين السوريين والتنسيق الأمني على الحدود، خصوصاً أن تهريب السلع والبضائع والأسلحة عبر الحدود يستنزف الاقتصاد اللبناني ويقوض استقراره. هذا الحوار، إذا تم بنجاح، يمكن أن يُعيد صياغة العلاقة بين البلدين على أسس من الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، بعيداً عن هيمنة الماضي وتجاربه المرّة.
من جهة أخرى، يتعيّن على جوزف عون العمل على تحصين الوحدة الوطنية وتعزيز الثقة بين مختلف المكونات السياسية والطائفية والحزبية. هذا يتطلب طرح مبادرات إصلاحية جذرية تعالج قضايا الفساد المستشري وتعيد بناء مؤسسات الدولة على أسس من الشفافية والكفاءة. كما يحتاج إلى إعادة تفعيل الدور الاقتصادي للبنان من خلال إطلاق مشاريع تنموية كبرى بالتعاون مع الدول الداعمة، مثل السعودية وفرنسا وقطر، ما سيساهم في إخراج لبنان من أزمته الاقتصادية الخانقة.
على الصعيد الإقليمي، سيكون من الضروري توطيد العلاقات مع الدول العربية، خاصة السعودية ودول الخليج، بما يضمن استعادة الدعم المالي والاقتصادي الذي كان يشكّل شريان حياة للبنان. وفي الوقت نفسه، يجب السعي إلى بناء علاقة متوازنة مع القوى الدولية، مثل الولايات المتحدة وفرنسا، لضمان استمرار الدعم السياسي والاقتصادي للبنان.
الرئيس جوزف عون أمام فرصة تاريخية لإعادة صياغة الدور اللبناني على الصعيدين الداخلي والخارجي. نجاحه في هذه المهمة يتطلب منه التحلي بالحكمة والقدرة على بناء التوافقات الوطنية، إضافة إلى التزامه برؤية واضحة تضع مصلحة لبنان فوق كل اعتبار. التحديات كبيرة، لكن الفرصة لإنقاذ لبنان واستعادة سيادته ودوره ليست مستحيلة إذا ما توفرت الإرادة والإدارة السليمة.
في ظل هذه التحديات، قد يكون أول اختبار خارجي للرئيس جوزف عون هو التوجه إلى دمشق، لإعادة ترتيب العلاقات اللبنانية – السورية على أسس جديدة. زيارة كهذه، إذا تمت، ستعكس تحولاً مهماً في السياسة اللبنانية، حيث يمكن أن تكون خطوة استراتيجية لمعالجة ملفات حساسة، ومدّ علاقة جديدة مع الحكم الجديد فيها، إلا أنها لن تكون زيارة دون الالتزام بالسقف السعودي، أو بعيدة عن ما تريده السعودية من سوريا في المرحلة القادمة.