نينار عمران/ القاهرة
أقف نصف ثملة مزهوة بفستاني الوفي الوحيد الذي يتقبل كل تغيرات جسمي وكل الكيلوهات الزائدة التي تتجمع في بطني وأردافي، منهكة، تسعفني صديقتي بكأس ماء يعيدني إلى الحياة. أعود فعلاً إلى ساحة الرقص علني أحظى بفرصة لأراقص أمي المحاصرة بالراقصات/ين من صديقاتها وأصدقاءها. تبدو أمي شديدة الجمال بفستان اخضر يظهر أحد كتفيها، ترقص، تشرب نخبها ونخب جمالها قبل أن تطفئ شموعها الـ ٦٠ على قالب الشوكولا.
الكل هنا: صديقاتنا وأصدقاؤنا، مجتمع مصري/سوري من النساء والرجال، تتراوح أعمارهم/ن بين الـ ٣٠ والـ ٧٥ سنة. الجميع في ساحة الرقص، كلنا نسرق لحظة سعادة خاطفة في ظل كل ما يحصل.
توقفت لألتقط أنفاسي تاركة أمي وصديقاتها في ساحة الرقص، وجلست على أقرب كرسي متوفر أراقب نشاطهن وهذه الطاقة التي لا تتوقف. أقول لأحد أصدقائي ”ليت والدتك استطاعت القدوم“، يرد ”لا.. لا أعتقد، أمي عجوز قاربت الستين، لا تستطيع احتمال الحفلات“.
كان هذا كل ما استطعت تذكره في اليوم التالي مع هجمة الصداع. ولأنني لم أتمكن من إنجاز شيء كأي يوم Hangover، شغلتني مفارقة أن يخبرني أحد أن والدته ”العجوز“ الخمسينية لا تستطيع حضور حفلة عيد ميلاد أمي الستين الصاخبة. لم يسبق لي على الإطلاق الربط بين كلمتي ”عجوز“ و“أمي“. أمي عجوز! وكل هؤلاء الراقصين والراقصات عجائز!؟
على عكسي، استيقظت أمي باكراً، أنجزت بعض العمل ثم ذهبت للسباحة مع صديقتها. انتظرت عودتها إلى منزلها كي أتمكن من مقاطعة نشاطاتها لمشاركتها الفكرة التي تأكل رأسي منذ بداية اليوم. تضحك أمي من المفارقة إياها، وتخبرني بكل أنفة أن ”العمر مجرد Attitude، لو قررتِ أنك عجوز إذاً أنتِ عجوز.. بسيطة للغاية!“
تودعني والدتي لتلحق وداع صديق يغادر القاهرة، بينما أعود أنا بصداعي إلى فراشي وتلفازي متحصنة ببيجامتي. إذا كان السن مجرد Attitude فأنا عجوز بكل تأكيد، وأمي ليست عجوز على الإطلاق! إذاً، هل التقدم في السن شعور شخصي أم ثيمة اجتماعية؟
هذا التساؤل دفعني لاحقاً للانتباه لتفاصيل غابت عني، مثل أنني ألقب والدة أحد أصدقائي بـ ”خالة“، رغم أنها أصغر سناً من بعض صديقاتي أو والدات أصدقائي من اللواتي يبدو من البديهي بالنسبة لي أن أناديهن بأسمائهن. اصدقائي ينادون امي باسمها لأنها ”طنط إيه دي صاحبتي !“ كما يقول أحدهم. أنا أنادي هالة باسمها رغم أنها صديقة أمي وأم صديقتي، لكنها بالنسبة لي صديقتي التي نتشارك المغامرات والأسرار. لم أفكر يوماً بسن هالة، ولم أشعر بفارق سن بيننا يضطرني للتفكير في الأمر. متى تكون المرأة إذاً ”خالتو“، ومتى لا تكون؟
تقول لي إحدى صديقاتي الثلاثينيات أنها لطالما أحبت أن تكون ”ست“، بمعنى سيدة مقدرة، كبيرة ومحترمة من أبنائها وبناتها وحفيداتها وأحفادها. كانت صديقتي هذه سعيدة حين ولدت ابنة صديقتنا، أخيراً سيناديها أحد بـ“خالتو“! تقول لي أن التقدم في السن له هيبته واحترامه، تضحك وهي تعترف أن في الامر نوع من التسليم أو الاستسهال، لكنه مغرٍ بلا شك.
لصديقتي هذه عائلة كبيرة ومتماسكة، يحظى أطفالها بكميات مكثفة من الحب والاهتمام، من الجدة والجد والخالات والأخوال والعمات والأعمام.. في مجتمع أقرب إلى المجتمعات العشائرية، حيث تحظى كبيرات السن بالتقدير والاحترام، ويتم اللجوء إليهن للمشورة والبت في أمور العائلة/العشيرة. هذه الحظوة تجعلهن، ربما، زاهدات بالصراع مع التقدم بالسن.
ما هو التقدم في السن؟
اسأل أمي هذا السؤال، فتجيبني أن التقدم بالسن هو التوقف عن الرغبة بالحياة. فالرغبة بالحياة هي التي تغذي تلك الطاقة التي في داخلك. وحب الاكتشاف يغذي شغفك وانطلاقك، وهذا ما يجعلك تقاومين الزمن.
هل التقدم في السن إذاً، هو استسلام للزمن؟
تشعر صديقتي الستينية أن الفرق بينها وبين صديقات طفولتها هو ”استعباد السن“، فلقد تقدمت صديقاتها في السن بشكل مختلف عن تقدمها، أصبحن يلبسن ألواناً محددة، يعقدن شعرهن بطريقة محددة، يرتدين أحذية محددة، يتكلمن بطريقة محددة.. كل شيء يجب أن يتناسب مع ”سيدات في سنهن“ كما يقال، ومع دورهن المحدد داخل الأسرة فقط. أصبحت صديقاتها برأيها مستعبدات للسن، أو مستعبدات للمفهوم الثقافي للسن في محيطهن. لا تفكر صديقتي بسنها، تعيش كل يوم بيومه دون تخطيط، منفتحة للتجارب ولمحاولة اكتشاف كل ما يمكن اكتشافه.
إذا كان التعلق بالحياة والتجربة وحب الاكتشاف هو السلاح ضد التقدم بالسن، فهل هذا يجعل النساء اللواتي يصفن أنفسهن بأنهن متقدمات في السن أقل تعلقاً بالحياة وانفتاحاً للتجرية؟
لاحظت اختلافا ثقافياً بين الشريحتين من النساء اللواتي تجاوزن الخمسين من حولي،. فالنساء الأكثر محافظة وانغلاقاً هن النساء اللواتي اتبعن الأدوار المحددة، وبعد عمر معين أصبحن زاهدات وغير متقبلات راغبات بأدوار لهن خارج الأسرة. بينما خرجت بعض النساء من هذا ”التصنيف“ العمري بسبب خلفية ثقافية تقدمية أو وعي سابق بالتمييز الجندري، مما جعلهن أكثر انفتاحاً وتقبلاً للتغيير والتجارب.
لا تعتقد أمي، أو أية من صديقاتي أو صديقاتها، أنهن في موقع التمرد على ثقافة السن في المجتمع المحيط بهن، هن يشعرن بالطبع أنهن مختلفات عن نساء كثيرات في مثل سنهن، لكن هذا الاختلاف، بالنسبة لهن، لن يتحول إلى وصمة. لكن هذا لا يلغي حقيقة أن هناك وصمة تحيط بالنساء اللواتي يحاربن الزمن.
التمييز ضد النساء المتقدمات في السن هو شكل من اشكال التمييز الاجتماعي المبني على اسس عمرية وجندرية. ويتضح هذا التمييز من خلال التركيز على النساء الشابات وتهميش المتقدمات في السن في الثقافة المجتمعية أو الفنون والإعلام، وكأن هناك ما يخبرنا أن السن يجعل المرأة أقل أهمية تدريجياً. كما يتم تمثيل النساء المتقدمات في السن فنياً من خلال عرضهن عاجزات وضعيفات، محصورات بدور الجدة الزاهدة، أو الأم، أو العمة.. أو من خلال تصويرهن كجاهلات أو غير قادرات على مواكبة الحياة.
يطرح المسلسل الأميركي Grace and Frankie وجهة نظر مختلفة حول النساء المتقدمات في السن، إذ يحكي قصة صديقتين سبعينيتين تختبران الطلاق والاستقلالية، وتواجهان مجتمعاً غير مكترث بالنساء بعد سن الشباب. إذاً والحمد لله، فإن هذا النوع من التمييز عابر للحدود والثقافات.
تنزعج أمي حين يصف أحد تعب جدتي بأنه ”طبيعي في سنها“، وتعتبر أن هذا التفكير يحد من مساحة التعامل مع جدتي كأية امرأة قد تتعب من برد أو صداع، ويصورها كعجوز مسنة، وهو ما ليست عليه. أجد تطرف أمي هذا ضروري في بعض الحالات، خاصة حين يحاول أحد التلميح إلى اختلاف حياتها عمن في سنها، إذ ترفض أمي كما ترفض الأخريات تحديدهن بسنهن، هن لسن نساء كبيرات في السن، بل هن مجرد نساء، وهن ينلن ما يكفي من الوصم لمجرد كونهنّ كذلك، فلم إضافة وصم جديد؟ هل يجب إضافة تمييز عمري للتمييز الصحي المطبق مسبقاً ضد النساء؟
وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن التمييز الصحي ضد النساء هو كل “تمييز أو استعباد أو تقييد“ يستهدف النساء ويؤثر سلباً على حقوقهن في الحصول على خدمات صحية شاملة ومتساوية، سواء على مستوى الوقاية أو العلاج أو التعافي، ويكون هذا التمييز مبنياً على النوع الاجتماعي أو عوامل اجتماعية واقتصادية أو ثقافية.
هذا التنصل من الارتباط الثقافي بالسن، جعلني أدرك أنني تعاملت ببديهية مع مسألة التقدم في السن، واعتبرت أنني سأرث صبا أمي الدائم دون جهد مني. لكنني الآن لا أعتقد أن هذا ما سيحصل، فأنا ثلاثينية فقدت الشغف، أحرص على إبقاء أدوية المعدة والاكتئاب قريبة مني، تؤلمني مفاصلي من رؤية جينيفر لوبيز تتراقص بخفة على الشاشة. الشغف إذاً مكتسب، وليس فطري.
مرتدية بجامتي، أنزل لأسرق وجبة آخر الليل من ثلاجة أمي، فأجدها بكامل أناقتها تتجهز للسهرة مع أصدقائها. أتذكر مكالمتي قبل ربع ساعة مع صديقتي الثلاثينية، حين تكاسلنا كلانا عن الخروج من المنزل في هذا البرد، وأجلنا لقاءنا إلى يوم آخر. أودع أمي، احمل بعض علب الجبنة والخبز من ثلاجتها، أعود إلى منزلي وإلى كنبتي، أضع كيس الماء الساخن على بطني وأنا أراقب صور أمي المباشرة من سهرتها على حسابها على انستغرام.