تفاجأت الأوساط اللبنانية بخبر فرض قيود على العابرين إلى سوريا يوم الثالث من يناير/كانون الثاني. بدا الأمر ملفتاً لكثيرين، على الرغم من أنه إجراء طبيعي بين أي دولتين. هذه القيود، التي تضمنت حصول العابرين على إقامة صالحة وحجز فندقي وغيرها من التفاصيل، فتحت باب النقاش واسعاً حول شكل العلاقة المتوقعة بين الجانبين السوري واللبناني.
من يحتاج إلى الآخر أكثر؟ سؤال تصعب الإجابة عليه، خاصة أن الدولتين تعيشان حالة مزرية بعد خروجهما من حروب وصراعات لم تُحسم نهائياً بعد. الأولى يحكمها رجل بلا شرعية انتخابية، والثانية تعيش بلا رئيس، بحكومة شبه مشلولة وصراعات لا تنتهي. يحتاج لبنان إلى سوريا لتثبيت أمنه واستقراره، ولتوفير منفذ ثابت لتصدير البضائع وتعزيز اقتصاده المتراجع. في المقابل، تحتاج سوريا إلى لبنان لتثبيت حكمها إقليمياً، وطي صفحة التدخل اللبناني عبر “حزب الله” إلى غير رجعة. قيمة سوريا للبنان تكمن في كونها باباً ضرورياً لأمنه، بينما تكمن قيمة لبنان لسوريا في دوره في استقرار حكمها، إذ غالباً ما تأتي رياح التغيير والمؤامرات، على حدٍ سواء، من بيروت نحو دمشق.
ولكن العلاقة بين البلدين تتجاوز البراغماتية، فهي محكومة بشرايين من التاريخ والجغرافيا، تمتد من روابط الدم والثقافة إلى تقاطعات المصالح والتدخلات. يدرك الطرفان أن المسافات التي تفصل بينهما أقرب من أن تسمح لأي منهما بالانعزال التام عن الآخر، وأن أي محاولة للانفصال أو التصعيد ستؤدي إلى ارتدادات مباشرة على الجانبين.
في ظل هذه الحقيقة، تبدو القيود المفروضة مجرد تذكير بأن السيادة الوطنية، مهما كانت هشة، لا تزال ورقة ضغط في لعبة السياسة الإقليمية. لكن التحدي الحقيقي يكمن في كيفية إدارة هذه العلاقة بحكمة تتجاوز شعارات السيادة والهيمنة، لتصبح قائمة على التعاون والاحترام المتبادل، وهو أمر يبدو بعيد المنال حالياً. يعود ذلك إلى طبيعة الحكم السوري الحالي، واهتمامات القيادة السورية الجديدة، ممثلة بأحمد الشرع، الذي يعطي الأولوية لفتح علاقات مع القوى الغربية والخليجية لتدعيم شرعيته الغائبة. في المقابل، يكترث المشهد السياسي في لبنان بإمكانية انتخاب رئيس جديد للجمهورية يوم الخميس في التاسع من الشهر الحالي، حيث يُتوقع أن تكون مهمته تطبيق القرارات الدولية واتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل.
لبنان وسوريا، لا يمكن لأي منهما الاستغناء عن الآخر، لكن كليهما يجمع أوراقه لعرضها على الآخر بعد حين، في علاقة تُشبه رقصة مشحونة بين شريكين مرهقين يدركان أن الانفصال مستحيل وقد يضر بهما معاً.
من المثير للاهتمام، أن مسؤولين رسميين من تركيا والعراق والأردن زاروا دمشق والتقوا بالشرع، بينما لم يُقدم أي مسؤول رسمي لبناني على هذا الأمر. من يعرف عالم السياسة في لبنان يدرك أن التغييرات الداخلية غالباً ما تكون سريعة ومثيرة، بينما تكون المبادرات الخارجية بطيئة وتنقصها الحيوية. على أي حال، لا مفر للبنان من الذهاب إلى سوريا ومدّ حد أدنى من العلاقات مع الحكم السوري الجديد، لا حباً به، بل حفاظاً على مصالحه العليا في المقام الأول.
من مصلحة لبنان ترسيم حدوده مع سوريا، إعادة مئات آلاف اللاجئين السوريين إلى بلادهم، كما وقف التهريب عبر الحدود، إلى جانب التأكيد على سيادته وحقه في الاستقلال، بعيداً عن بعض المطامع السورية القديمة التي خلّفها حكم “البعث” والتي تُسمع أحياناً من بعض أصحاب الرؤوس الحامية. من هذه المطامع ما عبر عنه هيثم المالح، الحقوقي والسياسي السوري، الذي صرح متبجحاً لإحدى وسائل الإعلام المصرية في الخامس من الشهر الحالي بأن “لبنان جزء من الأراضي السورية ولا بد من أن يعود إلى سيادتنا وحكمنا”. هذه التصريحات وأصحابها لا يخدمون لا سوريا ولا لبنان. المستقبل يتطلب شراكة عقلانية بين البلدين تحترم سيادة كل منهما وتضمن مصالحهما المشتركة.
ومن هنا، تتعقّد الصورة أكثر بين الطرفين. فبين من يرى في لبنان امتداداً طبيعياً لسوريا تاريخياً، وبين من يُصرّ على استقلاله التام بلا أي إملاءات، يبقى الخوف قائماً من أن تتحوّل العلاقات إلى مواجهة سياسية أو اقتصادية مفتوحة يوماً ما. تصريحات مثل تلك التي أطلقها هيثم المالح ليست مجرد كلمات عابرة، بل تكشف عن تيار داخل سوريا ما زال ينظر إلى لبنان من نافذة السيطرة، لا الشراكة. هذا التيار، إن تمدّد، قد يعيد عقارب الساعة إلى عقود مظلمة من الهيمنة والإخضاع، وهو ما لا يحتمله لبنان، خاصة في ظل هشاشته الراهنة وكثرة التدخلات الأجنبية فيه.
لكن المعادلة ليست بهذه البساطة. فبين الرؤوس الحامية والتطلعات السيادية، هناك واقع معقّد. لبنان، بمشاكله السياسية والاقتصادية، لا يملك ترف القطيعة مع جيرانه، خصوصاً في وقت أصبحت فيه حدوده مسرحاً للتهريب والأزمات المتراكمة. وسوريا، رغم محاولاتها الظهور بمظهر الحكم الجديد و “المنفتح”، ما زالت غارقة في إرث طويل من الصراعات الداخلية والإقليمية، ما يجعلها بحاجة ماسّة إلى علاقات مستقرة مع الدول المجاورة، بما في ذلك لبنان.
يبقى السؤال، إذاً، كيف يمكن للبنان أن يوازن بين حماية سيادته وتجنّب التصعيد مع جاره الأكبر؟ الحل، ربما، يكمن في دبلوماسية ذكية تعرف كيف تضع خطوطاً حمراء واضحة، لكنها في الوقت نفسه تفتح أبواب الحوار حول القضايا العالقة. ترسيم الحدود، حل قضية اللاجئين، والتعاون الأمني لضبط الحدود، كلها ملفات تحتاج إلى إدارة دقيقة بعيدة عن المزايدات الشعبوية أو التنازلات المهينة.
في هذا السياق، يبدو أن الخطوة الأولى يجب أن تبدأ من بيروت. زيارة رسمية إلى دمشق، مهما كانت مثيرة للجدل داخلياً، قد تكون رسالة واضحة بأن لبنان مستعد للتعاطي بواقعية مع الوضع السوري الجديد. ولكن هذه الزيارة يجب أن تكون مدروسة، مشروطة، ومبنية على أرضية من المصالح الوطنية اللبنانية، وليس على أي اعتبار آخر. فلا يمكن للبنان أن يقدّم نفسه كطرف ضعيف أو مستسلم، بل كجار يسعى إلى علاقة متوازنة تحقق الفائدة للطرفين.
أما في سوريا، فعلى الحكم الجديد أن يثبت، بالأفعال لا الأقوال، أنه مستعد لتجاوز سياسات الماضي وإرثه الرافض لاستقلال لبنان. تصريحات مثل تلك التي أطلقها المالح لا تخدم سوى تغذية الشكوك وتوسيع الهوّة بين الشعبين. بدلاً من ذلك، يمكن لدمشق أن تبادر بخطوات إيجابية، مثل تسهيل عودة اللاجئين، وضبط التصريحات المثيرة للجدل، والعمل على تعزيز الاستقرار الإقليمي.
اللبنانيون والسوريون، كما العابرون بين حدودهما، عالقون بين تاريخ مشترك ثقيل ومستقبل غامض. لكن ربما، وسط كل هذا التعقيد، تكمن فرصة لبناء علاقة جديدة أكثر توازناً وندية، تنطلق من الاعتراف بالحقائق الجغرافية، ولكن بعيداً عن إرث الطموحات التوسعية أو الأوهام الوحدوية. لأن كلاً من لبنان وسوريا يحتاج إلى الآخر، ولكن كلاً منهما يحتاج أيضاً إلى أن يحترم الآخر كما هو، لا كما يتمناه أن يكون.