في أعقاب التحولات السياسية الكبيرة التي شهدتها سوريا مؤخراً، وبدء الإدارة السورية الجديدة في تعزيز علاقاتها مع الدول العربية، يظهر تساؤل مشروع في الأوساط السياسية: هل تخشى تركيا من فقدان نفوذها في سوريا مع هذا التحول؟ وعلى الرغم من التصريحات التركية التي أبدت رغبة في التعاون مع الحكومة السورية الجديدة، إلا أن التحركات الديبلوماسية التي تقوم بها دمشق تجاه دول الخليج العربي تثير القلق في أنقرة، خاصة مع الزيارات المكثفة التي يقوم بها وزير الخارجية في الإدارة السورية إلى السعودية وقطر والإمارات في هذه الفترة.
وتواصلت وزارة الخارجية السورية مع كبار المسؤولين في الدول العربية لتعزيز هذا التوجه، وهو ما يعكس رغبة سوريا في العودة إلى محيطها العربي وتحقيق استقرار داخلي يعكس التنوع المجتمعي السوري. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيف ستؤثر هذه التحركات على العلاقة السورية-التركية في المستقبل القريب.
اقرأ أيضاً: وفد حكومي سوري برئاسة الشيباني يصل الإمارات – 963+
وفي هذا السياق، أعرب الباحث طه عودة أوغلو، المتخصص في العلوم السياسية، عن أن “التقارب السوري الخليجي يعكس رغبة دمشق في تبني سياسة خارجية أكثر استقلالية، وقد يؤدي ذلك إلى خلق توازن جديد في العلاقات الإقليمية، مما يثير قلق أنقرة بشأن موقعها في هذا المشهد الجديد”.
وأضاف عودة أوغلو في تصريحات لموقع “963+”، أن التحركات السورية نحو الدول العربية تأتي في وقت حساس، حيث تسعى الإدارة السورية إلى صياغة هوية إقليمية جديدة بعيداً عن السياسات القديمة.
وتشير التطورات إلى رغبة سوريا في استعادة دورها التقليدي في المحيط العربي، وهو ما قد يغير معادلة التحالفات الإقليمية، بما في ذلك علاقتها مع تركيا.
ورغم التصريحات التركية الإيجابية التي تؤكد استعداد أنقرة للتعاون مع الإدارة السورية الجديدة، إلا أن التحركات الديبلوماسية المكثفة لدمشق مع دول الخليج تُلقي بظلالها على هذه التصريحات.
ويبرز التقارب السوري الخليجي كعامل قد يزيد من عزلة تركيا في المنطقة، إذا لم تتمكن أنقرة من إعادة صياغة استراتيجيتها بما يتماشى مع التغيرات الجديدة.
اقرأ أيضاً: سوريا والمحيط العربي.. حراك ديبلوماسي مكثف وترقب للمرحلة القادمة – 963+
وفي هذا الصدد، يرى المحلل السياسي السوري عقيل حسين، في حديث لـ”963+”، أن “تركيا لا تزال تتمتع بنفوذ كبير في سوريا بفضل قربها الجغرافي ومصالحها الاقتصادية والأمنية المشتركة مع دمشق”.
وأشار حسين إلى أن “انفتاح سوريا على الدول العربية قد يكون له أثر إيجابي أيضاً على العلاقات السورية التركية إذا ما تم استثماره بحكمة من قبل الطرفين”.
الملف الكردي.. أولوية تركية قصوى
في موازاة ذلك، يبقى الملف الأكثر إلحاحاً بالنسبة لتركيا هو وجود قوات سوريا الديموقراطية (قسد) على حدودها، والتي تعتبرها أنقرة تهديداً مباشراً لأمنها القومي. ومع استمرار الدعم الأميركي لهذه القوات، تسعى تركيا إلى تسريع خطواتها في هذا الملف، محذرة من أن التأخير قد يؤدي إلى تعقيد الوضع بشكل أكبر.
ورغم التباين بين الإدارة السورية الجديدة، وتركيا، حول أسلوب التعامل مع “قسد” إلا أن أنقرة تسعى لحسم هذا الملف بسرعة، ويأتي هذا الإصرار التركي بعد فشل المحاولات السابقة للمصالحة بسبب غياب ضمانات وخريطة طريق واضحة. وعكست تصريحات زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، في سجن إمرالي، استعداداً للمساهمة في السلام، لكن تحديات داخلية وخارجية تظل قائمة، وتأثير ذلك يمتد إلى الأكراد في سوريا.
وأكد أردوغان أن تركيا “لن تتهاون في ضمان أمن حدودها الجنوبية”، مشيراً إلى أن العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا قد تكون خياراً مطروحاً إذا لم يتم التوصل إلى حلول ديبلوماسية تلبي احتياجات أنقرة الأمنية.
وخلال مؤتمر في مدينة طرابزون، صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن “التعاون مع القيادة السورية الجديدة أمر ضروري للقضاء على الانفصاليين وضمان استقرار المنطقة”. وأكد أردوغان أن تركيا مستعدة لتقديم كل الدعم الممكن لسوريا في جهودها لاستعادة السيطرة على كافة أراضيها.
وأشار أردوغان إلى أن بلاده حققت نجاحات كبيرة في مكافحة تنظيم “داعش”، لكنها تواجه تحديات مستمرة تتعلق بمحاولات إحياء هذا التنظيم في مناطق متفرقة. وأضاف أن تركيا “لن تسمح بقيام كيانات انفصالية أو بناء جدران جديدة بينها وبين جيرانها، بما في ذلك سوريا”، مما يعكس إصرار أنقرة على تحقيق أمنها القومي على حدودها الجنوبية.
وفي هذا الإطار، أوضح الباحث السياسي طه عودة أوغلو أن “التصريحات التركية الأخيرة تعكس رغبة واضحة في التنسيق مع دمشق لتسوية الملفات الأمنية الشائكة، خاصة تلك المتعلقة بشمال شرقي سوريا”.
وأضاف أن “تركيا تسعى إلى معالجة ملف حزب العمال الكردستاني بشكل جذري بالتعاون مع الإدارة السورية الجديدة”.
وأعرب صالح حجاب، المحلل السياسي المقيم في باريس، في حديث لـ”963+” عن أمله في أن “تتمكن السلطات السورية الجديدة من بناء سوريا ديمقراطية جديدة، بعيداً عن عراقيل الأنظمة الدكتاتورية العربية والدول الغربية التي تسعى إلى ترسيخ فكرة عدم توافق الإسلام مع الديموقراطية”.
وأشار إلى أن “أوروبا ترى في سوريا الجديدة نموذجاً مشابهاً لتركيا الفتية التي تسير على خطى تركيا أردوغان، وأنها ترفض أن ترى نموذجاً جديداً في المنطقة يتمثل في سوريا الجديدة”.
ويجمع محللون على أن “تركيا تسعى إلى الحفاظ على توازن دقيق بين تأمين مصالحها الأمنية في سوريا والتكيف مع التحولات السياسية في المنطقة. وبينما تعمل الإدارة السورية الجديدة على تعزيز روابطها مع العالم العربي، تبقى تركيا طرفاً لا غنى عنه في أي حل مستدام للملف السوري”.