تتحدث مسرحية “يعيش يعيش” للأخوين الرحباني وفيروز (قدمت علي مسرح البيكاديلي في بيروت عام 1970) عن امبراطور مستبد يهرب بعد قيام الثوار بانقلاب عليه، وعند هروبه يقوم بحلق لحيته الطويلة ويخلع عباءة الإمبراطورية ويختبئ في نفس المدينة بوصفه رجلاً اعتدى على زوجته بالضرب وملاحق من قبل الشرطة (الدرك). وفي مخبئه في دكان (بوديب) وحفيدته يتعرف على عالم آخر لم يعرفه في حياته، عالم المهربين وقطاع الطرق والملاحقين من الدرك والهاربين الذين يقررون الانقلاب على الانقلاب ويبحثون عن شخص مناسب لاستلام الحكم الجديد، فيقع الاختيار على الامبراطور نفسه بحلته وصورته الجديدة.
هكذا يحدث الانقلاب الأول على الإمبراطور ليعود ذات الإمبراطور بعد حين بهيئة جديدة، لكن هل التغيير حدث لشخصية الإمبراطور أم لشكله الخارجي فقط؟ يقوم الحاكم الجديد (الإمبراطور القديم) أول استلامه السلطة باعتقال المهربين والملاحقين وأصحاب الدكان الذين آووه في هروبه ويزجهم في السجن. لم يتغير الإمبراطور طبعاً، لم تتغير هويته الداخلية وشخصيته المستبدة، ما تغير هو شكله الخارجي فقط. وربما تفيد معلومة أن مسرحية “يعيش يعيش” منعت في غير دولة عربية ذلك الوقت، الدول التي حصل فيها انقلابات عسكرية باسم الثورات، وكأن أصحاب تلك الانقلابات كانوا يدركون أنهم يشبهون الإمبراطور، وأن شخصية المستبد لم تتغير إلا في الهيئة الخارجية للحاكم، أما بنية الحكم وعقلية الاستبداد بقيت هي ذاتها.
لم يسلم مراقب لما يحدث في سوريا من الدهشة وهو يرى الانقلاب في شخصية أبو محمد الجولاني (زعيم جبهة النصرة الموضوعة، دولياً، على قائمة الإرهاب) وتحوله إلى أحمد الشرع قائد قوات “هيئة تحرير الشام” التي استطاعت اقتناص لحظة التقاطعات الدولية والتي التقت على هدف مشترك هو التخلص أخيراً من بشار الأسد، حيث تمكنت الهيئة من دخول المدن السورية دون أية مقاومة تذكر بعد صدور أوامر للجيش وقوات الأمن بإلقاء السلاح والملابس العسكرية والهرب، هكذا خلت المدن والمحافظات السورية من أي مظهر من مظاهر السلطة، ودخلت قوات “هيئة تحرير الشام” وقوات الجبهة الجنوبية وفصائل عسكرية جهادية متنوعة في معركة أطلقوا عليها اسم (ردع العدوان) امتدت من حلب وصولاً إلى دمشق. هرب بشار الأسد ووصل الجولاني بقواته إلى دمشق، وسرعان ما استقر في قصر الشعب، حيث بدأت شخصية أحمد الشرع بالظهور شيئاً فشيئاً.
يتصرف أحمد الشرع لا بوصفه قائداً عسكريا لـ”هيئة تحرير الشام”، ذلك أنه سرعان ما خلع ملابسه العسكرية وارتدى لباساً مدنياً كان في بدايته أقرب للكاجوال: بنطال وقميص وسترة من غير ربطة عنق مع لحية لم تشذب كثيراً، كان هذا في أول ظهور له في حوار مع قناة cnn الأميركية، لم يكن كلامه وقتها مطمئناً، كان لايزال خطاب الجولاني حاضراً إلى حد ما، وكان ما يزال يستقبل إخوته في الجهاد ويلتقط الصور التذكارية التي تنتقل على وسائل الإعلام العالمية، ثم أطلق تصريحات ملفتة عن العلاقات مع العالم العربي والسلام مع إسرائيل، والعلاقة مع التاريخ الديني في الإسلام، قبل أن يظهر بصورة أكثر ليبرالية في مقابلة حصرية لقناة الحدث السعودية، حيث ارتدى بدلة رسمية مع ربطة عنق وحذاء (غالي الثمن)، مع تشذيب واضح للحيته، ترافق هذا التغيير الشكلي مع مزيد من الطمأنة للخارج أو للمجتمع الدولي الذي يشترط لرفع العقوبات عن سوريا ورفع اسم الجولاني والهيئة من لوائح الإرهاب، انتقالاً وتداولاً سلمياً للسلطة مع حماية حقوق الأقليات والمرأة، وهو ما لم يستطع أحمد الشرع أن يعد به بشكل مباشر، حيث جاءت إجاباته ضبابية عندما انتقل الحديث عن الوضع الداخلي.
دون شك فإن ثمة استحقاقات كبيرة أمام الشرع يتمثل أكثرها إلحاحاً في علاقته مع محيطه الجهادي، فالتغير الذي يبديه في الخطاب والوعود التي يطلقها يبدو أنها لا تناسب الكثير من المحيطين به، وهو ما ظهر في تصريحات مديرة مكتب المرأة عائشة الدبس وقبلها الناطق الإعلامي عبيدة الأرناؤوط، ثم وزير العدل ومحاولات إقصاد النساء عن العمل القضائي والعام، والحديث عن الأكثرية المسلمة التي ستحتكم للريعة بدلاً من القوانين المدنية، ومحاولات وزرارة التربية تعديل المناهج المدرسية بما يتناسب مع الفكر الإسلامي الأصولي؛ والأخطر هو سلوكيات الكثير من عناصر الهيئة والانتهاكات التي يقومون بها أثناء ملاحقة فلول وشبيحة النظام الساقط، والتي يتم شجبها لاحقاً بوصفها ارتكابات فردية أو تقوم بها فصائل لا علاقة لها بالهيئة، وهو ما يجب عنده السؤال حول السماح لهذه الفصائل بأن تهدد وتنتهك كرامات الناس بذريعة الغضب وفورة الدم. يضاف إلى كل ذلك محاولة حكومة تصريف الأعمال والمؤلفة من عناصر هيئة التحرير فقط دون سواهم تجاوز صلاحياتها والتصرف بما لا يحق لها من تعيينات وتعديلات كما لو أنها تريد أن تظهر أو تكرس وجودها كحكومة دائمة، رغم أن سوريا حالياً تعيش فراغا دستورياً وانهياراً كاملاً لمؤسسات الدولة يحتاج إلى كل الكوادر الوطنية الممكنة لإنقاذه؛ لكن يتصرف الشرع وحكومته كما لو أنهم حكومة انقلاب عسكرية لا حكومة ثورية كما يحاولون الترويج لأنفسهم.
هل يمكن للفكر الجهادي أن ينقلب إلى فكر مدني خلال أعوام قليلة؟ هذا سؤال أجاب عليه الكثير من الباحثين في الفكر الجهادي وفي تجربة الجولاني تحديداً بأنه من الصعب أن تحدث تغييرات جوهرية في هذا الفكر؛ رغم أن ما يبديه أحمد الشرع من براغماتية ودهاء سياسي قد يوحي بذلك، لكن حتى لو أن الشرع قد تغير فعلاً كفرد وطرأت على فكره انقلابات فكرية حادة تناسبت مع مظهره الجديد ببدلاته وربطات عنقه الأنيقة وبلحيته التي تزداد تشذيبا، فإن ما سيمنعه من إظهار ليبراليته المفترضة هو وجوده كقائد لمجموعة فصائل جهادية وبعضها بالغ التطرف، ولم يحظ أفرادها بالفرص التي حظي بها أحمد الشرع، أين العائلة القومية الناصرية المنفتحة والتعليم العالي والخبرات في القتال والاعتقال والبراغماتية في السياسة التي ظهرت منذ أن بايع القاعدة هروباً من مبايعته لـ”داعش” ثم خروجه عن القاعدة وتشكيله لجبهة النصرة ثم “هيئة تحرير الشام” التي أعلن أنه سوف يقوم بحلها في المؤتمر الوطني المزمع عقده بعد حين.
لا شك أن الجميع باتوا موقنين أن من سيستلم الرئاسة في سوريا لاحقاً هو أحمد الشرع، يتصرف هو حالياً بوصفه الرئيس العتيد، ويتصرف المجتمعين العربي والدولي معه بهذه الصفة، وإن أردنا أن نكون واقعيين فلنعترف أن أعداداً كبيرة جداً من السوريين سوف (تبايعه)، بعضهم عن قناعة وبعضهم عن خوف وعن ندرة مران بالديموقراطية وقلة تعود على حرية الخيار، إضافة إلى عدة إدراك أهمية الصوت في التغيير، لم يعتد السوريون على هذا وسيحتاجون وقتلاً طويلاً كي يعتادوا، إذا ليس بعيداً جداً أن نرى أحمد الشرع مسبوقاً بصفة الرئيس السوري، لكن على أية دولة سوف يكون رئيس؟ ماهي الدولة التي سيحكمها؟ لن يتمكن السوريون طويلاً من قبول دولة إسلامية إن كانت على النمط الإيراني أو الأفغاني، ليس لأننا أفضل من تلك الشعوب بل لأن بنية المجتمع مختلفة وتوزيعه الديموغرافي مختلف، تجارب الدول الإسلامية الأخرى الناجحة هي تجارب مبنية على قوانين مدنية وعلمانية ديموقراطية تسودها القوانين التي تحفظ حقوق الجميع بوصفهم مواطنين.
هل سيحتاج هذا لسوريا؟ في يقني أنه صعب جداً ليس فقط لآن السوريون اعتادوا على التعامل كأثرية وأقليات طوائفية ومذهبية طيلة قرن كامل من الزمن، لكن أيضاً لأن المحيطين بأحمد الشرع من عناصر الهيئة ومقاتليها ومقاتلي الفصائل الأخرى لن يستطيعوا احتمال سوريا مدنية وعلمانية، لن يستطيعوا التخلي عن عقيدتهم المتطرفة، وسيطالبون أحمد الشرع بالعودة باستعادة الجولاني تحت طائلة التمرد. هل تعود مسرحية “يعيش يعيش” لتصبح واقعاً سورياً بعد أن منعت لسنوات طويلة جداً في سوريا؟ الأيام القادمة حافلة بالأحداث، وليس لدى السوريين في انتظار القادم سوى العمل على تكوين جبهة ضغط ديموقراطية مدنية قادرة على الوقوف في وجه محاولات استعادة أحمد الشرع لثوب الجولاني وإلباسه لسوريا كلها.