أثار عدم مصافحة أحمد الشرع وزيرة خارجية ألمانيا التي زارت دمشق مع نظيرها الفرنسي الجمعة، جدلاً واسعاً بين السوريين وفي وسائل الإعلام الألمانية، لكن هذا الجدل يبدو غير منطقي لأن الحديث هنا يدور حول رجل قضى نحو نصف عمره في تنظيم القاعدة، ثم وجد نفسه في بيئة سياسية محكومة غالباً بتقاليد وبروتوكولات معينة قد لا يؤمن بها، ويمكن تسجيل الأمر في إطار الحرية الشخصية. لفهم طبيعة الشرع ومن انخرط بعمق في بيئة التنظيمات الجهادية لا يمكن النظر إليهم من زاوية واحدة وإخراجهم من السياق الذي تدرجوا فيه، فبدءاً من عام 1988حين انطلقت رحلة القاعدة بقيادة أسامة بن لادن في أفغانستان، اهتز تنظيمه مراراً بفعل تحولات وانكسارات كبيرة كان بينها خسارته حاملين للواء التنظيم ومنافحين عنه، لاذوا إلى ساحات كانوا قبل ذلك ناقمين على من فيها، ورغم أن القاعدة وسواها من التنظيمات الجهادية تمتلك قدرة على تجاوز خسارة الأشخاص، إلا أن بعض الانشقاقات قد تبدو قاصمة إذا ما كانت لشخصيات هامة فكرياً وتنظيمياً على طراز أبو حفص الموريتاني على سبيل المثال، إذ شكل انشقاقه/استقالته خسارة كبيرة لابن لادن، بوصفه الرجل الثالث في التنظيم. وغالباً كان التغير أو الصدام الفكري مع القيادة يلعب دوراً هاماً في بروز هذه الحالات، في حين كانت التحولات الفكرية تتفاوت من شخص لآخر من جهة الأسباب التي دفعت بهم إلى الوضع الجديد، ومن ثم المآلات التي أفضى إليها كل واحد منهم فيما بعد.
مناسبة الكلام وقد غيض ماء التنظيم عن ذي قبل، فهي مقاربة لفهم أحمد الشرع الذي لم يكن شخصية بتلك الأهمية في عائلة التنظيم الأم، لكنها عايشت مراحل هامة في عمل القاعدة في العراق، وفي لحظة تاريخية أصبحت في سدة الحكم بسوريا بعد مسارات عسيرة وتحولات فكرية وتنظيمية يسجلها البعض مجداً للعقل قلما تجده في شخصيات من هذا النوع، بينما يعده بعض منظري القاعدة عقوقاً يستوجب العقاب.
خلال السنوات القليلة الماضية حظي أحمد الشرع الذي كان يعرف بداية بالفاتح ثم الجولاني باهتمام ملحوظ من قبل وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث، حتى بدا الأمر وكأننا أمام سيناريو مرتب هدفه صناعة علامة تجارية فارقة، ومع دخوله القصر الجمهوري في دمشق بدأت مرحلة جديدة من تطور هذه الشخصية التي وصلت ذروتها واكتسحت أسواق السياسة والصحافة حول العالم.
لوهلة يبدو أن ما آل إليه رجل الساعة محض صدفة قذفت به إلى الهرم، لكن الحقيقة أن أحمد الشرع اشتغل لهذه اللحظة على مدار سنوات بطريقة لم يترك فيها مجالاً للصدفة في سياق تدريجي منظم شملت إعلانه الانفكاك عن القاعدة، وإجراء مقابلات حرص فيها على إيصال أفكاره مستهدفاً عقلية المجتمع الدولي لاقناعه بما توصل إليه من تحول بعد مراجعات فكرية وتجربة ذاتية اختلطت بالسياق السوري المحلي، وجرى ذلك قبل أن يظهر بوجهه الحقيقي للعلن، وهو ما يمكن تفسيره بأنه اعتمد في التسويق لمشروعه على الأفكار كأولوية، ثم بعد ذلك خرج للعلن مرتدياً زياً على طريقة أسامة بن لادن، لتبدأ بعدها مرحلة التحول التدريجي في تغيير الهندام حتى ارتداء بدلة رسمية بربطة عنق.
بالعودة إلى مثال أبو حفص الموريتاني، الذي كان قبل تركه للقاعدة شرعياً بارزاً فيها، وساهم في صياغة مواقف شرعية عديدة تبناها التنظيم في التسعينيات، لاحقاً أعلن “استقالته” وأصبح ناقداً للفكر الجهادي، وصرح مراراً أن التنظيم ارتكب أخطاءً كبيرة في فهم الشريعة وتطبيقها، وانتقد طريقة اتخاذ بن لادن للقرارات، ووجه نقداً واضحاً للأيديولوجيا الجهادية، ومثله فعل كثيرون في هذا الإطار.
بينما التحول الذي أظهره أحمد الشرع لا يعدو كونه عملية ترتيب للأولويات، فرغم انتقاده بعض ممارسات التنظيمات المتشددة، لكنه في العموم لم يُظهر أي تراجع واضح عن المبادئ الجهادية الأساسية، مثل الحاكمية أو الجهاد المسلح، لكنه أعاد صياغة أهدافه لتناسب السياق السوري، سعياً في تجميل صورته وصورة تنظيمه، معتمداً أولوية التركيز على نظام بشار الأسد ومنافسيه من الفصائل العسكرية في شمالي سوريا.
من جهة العنف واستخدام القوة نرى أن معظم الشخصيات المتحولة فكرياً تخلت بالكامل عن فكرة العنف كوسيلة لتحقيق الأهداف، لكن الشرع لم يتخل عن استخدام القوة كأداة رئيسية لتحقيق أهدافه مع الأخذ في الاعتبار طبيعة الحرب والصراع في سوريا، لكن الأهم من ذلك هو أنه لم يدِن العنف في سياق التنظيمات الجهادية بصورة واضحة حتى الآن، بل برره غير مرة كضرورة في مواجهة التحديات المحلية، وأثناء أي حديث عن العنف في التنظيمات الجهادية ينتقد المسألة من زاوية دفاعه عن نفسه، وأنه لم يكن راضياً عن عمليات يقضي فيها أطفال أو مدنيين، كما أنه لم يعتذر حتى الآن عن مسيرته السابقة بل صرح مراراً أن هذا تاريخه، وأن خياراته كانت صحيحة في وقتها، وبناها حسب ظروف كل مرحلة، مع ذلك لو سلمنا بهذا الكلام إيجاباً فإن مرحلته الحالية تحتم عليه إبداء مرونة أكثر وضوحاً، فعلى سبيل المثال لم ينطق حتى اللحظة بمصطلح الديمقراطية، ولم يكشف أي تفصيل حول مشروعه السياسي، ما يعني أن هناك ثمة ما يخشى التصريح به، في حين نلاحظ غيره ممن تحول فكرياً لم يجدوا حرجاً في استخدام هذه المصطلحات وحتى المطالبة بها أحياناً في إطار “ضوابط شرعية”، فهو إما تغير شكلاً لا مضموناً أو أنه يتجنب غضب متشددين قريبين منه، لذا لا تطلبوا منه الآن مصافحة النساء.