في كل تفصيل من كتاب “السلوك لمعرفة دول الملوك”، للمؤرخ البارع “تقي الدين المقريزي”، الذي يروي في نصفه الثاني حكاية الجنود/المماليك الذين استولوا على مصر، وخلفوا الأمراء الأيوبيين في حكمها، يجد الباحث مطابقة سياسية وثقافية واجتماعية لما تعيشه سوريا راهناً مع “حُكامها الجدد”.
فالجذر السياسي الأولي في كِلا الظرفين هو الحضور المكثف لمجموعة من المقاتلين الذين ظفروا بحكم بلاد ما وسكانها، فقط لأنهم حققوا نصراً عسكرياً. المماليك الذين اعتبروا مصر “غنيمة حرب” بالحد الأدنى، بعد انتصارهم في معركة “فارسكور” على الجيوش الصلبية وأسرهم للملك الفرنسي “لويس التاسع”، تطلعوا مباشرة لأن تكون الديار المصرية كلها لهم، دون اعتبارٍ لحُكم أمراء الأسرة الأيوبية ولا للشرعية الواجب أخذها من مركز الخلافة الإسلامية/العباسية، كما كان يفعل الأيوبيون، ولا حتى لناس مصر، الذين كان المماليك غُرباء تماماً عنهم، ثقافياً ولغوياً وحياتياً.
هل من تطابق أكثر من ذلك مع “الجماعة السورية الغالبة”، المستميتين في سبيل تحويل انتصارهم على الأسد إلى “سلطة مُستدامة”، مستخدمين إيحاء مستمداً يقول إنهم انتصروا على “غريب ما”، هو الأسد ومؤيدوه الإقليميون والدوليون، غير مبالين بكمية الغرباء الذين في صفوفهم، ولا ما يعانونه من عوز شديد في الشرعية. فما ظفروا به من حُكم وسلطة، لا يستند لا لدستور ولا توافقات داخلية ولا حتى قرارات أممية، وطبعاً ليس من تخويل شعبي لهم، ومع الأمر كله ثمة رفض دائم لأية شراكة حقيقة مع نظرائهم مع القوى السياسية في البلاد، مطلقين شعارهم الشهير “من يحرر يقرر”.
لكن المماليك وعوالهم لم يكونوا مجرد أدوات وفواعل سياسية فحسب، بل أيضاً كتلة من الخصائص الذاتية والاجتماعية والنفسية والسلوكية. فالمماليك كانوا أناس لا يعرفون من أسباب الحياة إلا الحرب، معزولون عن الفضاء الاجتماعي الكلي، يعيشون في قلاع ومعسكرات خاصة بهم، مغسولون من سُبل البهجة التي قد تعيشها المجتمعات الأخرى، لا أفراح وموالد لديهم، ولا تقاليد وقيم ثقافية وحياتية عليا تهندس عوالمهم، حتى لغاتهم وهيئاتهم الخارجية مختلفة وغريبة عن المتن الاجتماعي الأوسع، الذي لا يشتركون معه بروابط روحية وعائلية وعرفية واضحة المعالم.
بمعنى آخر، كان المماليك منشقون/متمردون على المتن العام للحياة الاجتماعية في مصر الأيوبية، وفي مراحل لاحقة في كل مناطق حُكمهم. حتى نظام وآلية الحُكم التي كرسوها، كانت مختلفة تماماً عما كانت عليه هذه المنطقة طوال خمسة قرون من الممالك الإسلامية.
حُكام سوريا الجدد غير مختلفين كثيراً عن كل ذلك، وعلى عدة مستويات. فأرواحهم ومخيلاتهم خاصة للغاية، عوالمهم شبه موحدة، متمركزة حول حكاية ورؤية واحدة للعالم، مأخوذون بالتاريخ لا بالحاضر والمستقبل، أوفياء للالتزام العقائدي والانضباط السلوكي، هيئاتهم شديدة المحافظة والتعبير عن الأدلجة السياسية. كل ذلك في وقت يتوزع فيه السوريون على مجتمع شديد الثراء، كجماعات وأفراد، حيث النسبة الكبرى منهم مندمجة في أدوات العالم الحديث وقيمه والسلوكيات اليومية المدنية المفروزة عنه، مرتبطون تماماً بأنماط الحياة المليئة بالبهجة، حفلات وسهرات وحضور كثيف وبهي للنساء في الحيز العام، المهني والاجتماعي، شيء مثلما هي الأغلبية المطلقة من المجتمعات العادية حول العالم.
التناقض الأهم متأت من الفضاء الحِرفي للحكام الجدد، الذين لا يعرفون حِرفة إلا الحرب والعسكرة، وفي لحظة “الانتصار” هذه، يودون أن يحولوا ميزتهم الذاتية تلك إلى مهنة دائمة، عبر الاستيلاء على سلطة الحُكم في البِلاد، واستخدام هذه الأخيرة كأداة لامتلاك أصل الأشياء ومصدرها، الثروة العامة والفضاء المشترك ومؤسسات الإدارة والمجتمع المدني والنُخب الثقافية، وكل ما هو باقي من عالم القيم والرموز وأشكال الهيمنة.
يحدث ذلك، في وقتٍ يجد السوريون أنفسهم تواقين لتجاوز قطيعتهم المستدامة مع العالم الخارجي، بعدما حجزهم حزب البعث والحُكم الأسد لقرابة ثلاث أرباع قرن في قاموس سياسي وروحي وثقافي شحيح للغاية، مناهض للعالم ومنتجاته الحديثة، متخم بالعسكرة وفائض القوة التي للحاكمين على حساب المحكومين، وتالياً المتطلعين لأن يكون المجتمع سيد نفسه، بكل ثرائه الروحي والاجتماعي، بمبادراته الاقتصادية وفاعليته الاجتماعية وثرواته الاقتصادية، أن يكون هو مصدر السلطة وآلية إنتاجها، لا العكس.
المماليك ليسوا أناس بذاتهم، ولا إنتاج عصر بعينه، المماليك معادلة بسيطة في شكل العلاقة بين المجتمع والسلطة، فحينما تكون السلطة سابقة وذات أولوية على المجتمع، ولا يعرف أهل السلطة مهنة إلا الحرب، وفوق ذلك معزولون عن كل بهاء الحياة ومناهضون لثراء المجتمع، يكون عصرهم، عصر المماليك.