يلماز سعيد – حمزة همكي
بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد في الثامن من الشهر الفائت، ووصول أحمد الشرع المعروف سابقاً بالجولاني، إلى دمشق، ومع ظهور بوادر انتهاء نشوة النصر في الشارع وعلى مستوى القيادة المؤقتة للبلاد، بدأ ذوبان الثلج يكشف عن تعقيدات الوضع السوري. قضايا داخلية حال حزب البعث دون ظهورها بآلة القمع خلال عقود حكمه، ثم تفاقمت في سنوات الحرب، إلى جانب قضايا خارجية تتعلق أبرزها بتخوفات شديدة حيال رجل يملك سيرة ذاتية حافلة بالعمل في تنظيمات متشددة، ثم استفاقت المنطقة على استلامه دمشق في سيناريو لم يكن يتوقعه حتى أكثر الناس مغامرة في التحليل.
أثناء عملية الزحف إلى دمشق التي بدأت في ٢٧ نوفمبر الماضي، التي أطلق عليها ردع العدوان، واظبت قيادتها على بث رسائل التطمين للأقليات، وتلا سقوط بشار الأسد، قرارات حول عدم التعرض لأحد، دفعت باتجاه فتح صفحة جديدة في البلاد، إلا أن بعض المناطق تشهد انتهاكات ميدانية، مثل الساحل الذي كان يمثل الحاضنة الرئيسية لنظام آل الأسد.
يجري ذلك في ظل ما يبدو معاناة أحمد الشرع صعوبة في السيطرة على عناصر مجموعات متشددة دخلت معه دمشق، بينها مجموعات من جنسيات أجنبية لا تدرك ما تنطوي عليه سوريا من تباين ديني وعرقي، خصوصاً في العاصمة ومحافظات الداخل والساحل. ومع انتشار صور وفيديوهات لانتهاكات صورها عناصر هيئة تحرير الشام أنفسهم، وارتفاع وتيرة الحديث عنها وعن مقاتلين أجانب يبدو أن الشرع بدأ بالتفكير في إيجاد حل يغلق به هذا الملف، وصرح حول إمكانية منح الأجانب منهم الجنسية السورية، ربما في محاولة لكف شرّ قد ينوله منهم مستقبلاً، إلا أن هذا الحل سيعرضه لمواجهة التيارات الليبرالية السورية، إضافة إلى أن هؤلاء العناصر سيشكلون عليه عبئاً أمام المجتمع الدولي، إذ لا أحد سيسّر بمشاهدة متشددين عابرين للحدود في سوريا.
مع ذلك تبدو معظم خيارات محاولة كبح أو إغلاق ملف هذه المجموعات مكلفة، فإن أقدم الشرع على تسليم عناصرها لدولهم أو الزج بهم في السجون مثل ما فعله بعناصر حراس الدين فرع تنظيم القاعدة في إدلب، فإنه سيزيد من فرصة القاعدة في إقامة الحجة عليه، خصوصاً أنه يعاني أصلاً من محاولات القاعدة التجييش ضده في هذا الملف، وتتهمه بتصفية مجموعة خراسان التي تشير تقديرات القاعدة أن عددهم كان ستين جهادياً، في حين تنفي مصادر مقربة من هيئة تحرير الشام وجود هذه المجموعة في الأساس. خلافاً لذلك قد يستثمر الشرع وجود هؤلاء العناصر في صالحه، سيما مجموعات حراس الدين الذين تعج بهم سجون إدلب. فقد يستخدمهم كورقة ضغط يلوّح بها عند الحاجة أمام الدول. في ذات الوقت فإنه من الممكن أن يستخدم خصوم الجولاني هؤلاء المعتقلين إذا ما طرأ أي انفلات أمني في إدلب واستغلت القاعدة ذلك، كما يمكن أن تستثمر إيران في قيادات القاعدة لديها، وتدفعها باتجاه إعلان تمرد في إدلب، وهنا لا يستبعد وجود خلايا نائمة لإيران قد تتحرك في اللحظة المناسبة، إذ لا يمكن تصور بقاء إيران في وضعية المتفرج وقد خسرت ما خسرته في سوريا، وإذا ما حدث ذلك قد نشهد هجوماً منظماً على سجون إدلب للإفراج عن رفاق السلاح وإطلاقهم في المنطقة.
ويزيد من صعوبة معالجة هذا الملف توفر إمكانية تزعزع قيادة هيئة تحرير الشام في الفترة المقبلة، خصوصاً أن الأشهر القليلة الماضية شهدت حملة اعتقالات داخلية بتهمة التخابر مع الخارج، طالت قيادات معروفة بينهم أبو ماريا القحطاني، الذي انتشرت أنباء حول مقتله لاحقاً، ورغم ما يعرف عن الشرع قدرته في احتواء المشكلات الداخلية، إلا أن الخطر المحدق به ما زال قائماً، فمع وصول القيادة إلى دمشق واتساع رقعة السيطرة والنفوذ، تشكلت بيئة خصبة لظهور انشقاقات، وقد تظهر ملامحها داخل قيادة الهيئة نفسها، خصوصاً مع احتمالية تصادمه مع بعض القيادات المتشددة التي لا تتسم بالبراغماتية التي ينتهجها الشرع، فمحاولة خروجه من عقلية الثورة إلى الدولة، قد يضعه في مواجهة مباشرة مع قيادات تؤمن باستمرارية الثورة، وضرورة التغيير الجذري في بنية المجتمعات التي تحكمها، وفق أدبيات تنظيمات إسلامية متشددة، سيما أن طبيعة البيئات الجديدة في العاصمة وغيرها، ستكون مستفزة لهذه القيادات إلى حد كبير، ما قد يدفعها إلى محاولة التغيير ولو بالقوة.
ففي حال حدوث شرخ في قيادة الهيئة، قد نشهد تشكل كتلة وازنة ضد الشرع، تتألف من المنشقين عنه ومن قيادات متشددة في فصيل أحرار الشام، كما أن هناك كتائب أخرى لديها قيادة في الخارج كالمجموعات الأجنبية من طرف، وفصيل حراس الدين التابع للقاعدة من طرف ثان، وقد يستغل كل هؤلاء سواء مجتمعين أو منفصلين شبه الفراغ الأمني الموجود في إدلب حالياً، ومحاولة السيطرة عليها أو إعلان الجهاد والقيام بعمليات وتفجيرات في دمشق والساحل.
في هذا الإطار ثمة فصائل الجنوب وفصائل ريف دمشق التي لا تبدي رغبة في الانصياع الكامل لمشروع الشرع، خصوصاً حكمه لدمشق منفرداً، لأنها تعد نفسها المحررة للعاصمة حيث وصلت إليها قبله، وإذا ما أعلنت التمرد يمكن أن تتلقى هذه الفصائل دعماً من دول إقليمية وعربية، وبالتالي سيكون أمامه مواجهة كل هؤلاء.
إلى جانب ذلك ثمة معضلات عسكرية أخرى مثل الجيش الوطني المرتبط مباشرة بتركيا، فقد تنتج عن أي محاولة للشرع بحل هذه الفصائل مواجهة مباشرة معها ومع أنقرة التي صرفت عليها ملايين الدولارات.
خلال الأيام الماضية التقى الشرع مع قادة من الجيش الوطني، وبحسب ما ترشح من معلومات فإن النقاشات دارت حول مسألة حل الفصائل، وفي حال قبل الجيش الوطني بالانضمام إلى مشروع الشرع والحكومة الجديدة، سنكون هنا أمام مفترق طرق، أحدها كسب الجيش الوطني الشرعية، لأنه سيكون تابعاً للحكومة، لكن سيكون الشرع في موقف حرج أمام الأمريكان لأن فصائل الجيش الوطني تحارب قوات سوريا الديمقراطية حليفة واشنطن، أما في حال عدم تبني الجولاني للجيش الوطني، فيسضع نفسه في مأزق كبير مع تركيا.
غير ذلك ثمة معضلة أخرى، وهي قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية وقوات التحالف الدولي، وقد يكون التعامل مع هذه القوات ملفاً بالغ التعقيد، إذا ما تم دمجها في الجيش السوري، لأن بنية هذه القوات والأفكار التي بنيت عليها تختلف جذرياً مع بناء الفصائل التي تشكلت في مناطق المعارضة شمالي سوريا. حيث تعتنق “قسد” أفكاراً يسارية تصل أحياناً لدرجة التشدد، بينما تعتنق الفصائل في إدلب أفكاراً إسلامية تصل درجة التشدد أيضاً، علاوة على ذلك فإن أي اتفاق مع قسد سيعني دخول الشرع في مأزق مع تركيا، إلا إذا جرى اتفاق تكون مصالح أنقرة هي الراجحة فيه.
غرباً باتجاه الساحل الذي يمر بمخاض عسير ، ويعاني من انتهاكات متفرقة منذ سقوط النظام، في ظل ذهاب البعض إلى تبرير هذه الانتهاكات التي يقولون إنها تنال بشكل أساسي من ضباط النظام السابق، ومن تورطوا بعمليات قتل خلال سنوات الحرب، ناهيك عن عمليات انتقام تطال تجار اً ومستفيدين من النظام السابق، إلا أن استمرار هذه الانتهاكات دون الاعتماد على أسس قانونية ومحاكمات عادلة سيضع أحمد الشرع في مأزق آخر، خصوصاً أن نسبة كبيرة من سكان الساحل كانت العمود الفقري للنظام آل الأسد، ما يعني أن دائرة الانتهاكات ستتوسع وستطال شرائح واسعة في هذه المنطقة، ما قد يدفع بالسكان إلى المطالبة بحمل السلاح وحماية أنفسهم وإدارة مناطقهم، مع وجود فلول للنظام قد يركبون الموجة، بدعم إيراني محتمل.
قريباً من الوضع الأمني والعكسري ومع تضارب المصالح يبقى مستقبل السوريين معلقاً بين تطلعات فئة واسعة من السكان الذين هتفوا منذ بداية الاحتجاجات عام 2011 بدولة مدنية، وبين التيار الإسلامي الذي يسعى إلى تشكيل دولة وفق تطلعات الأغلبية السنية.
السؤال الأبرز الذي تطرحه شرائح سورية وازنة الآن، هو كيف سيكون شكل الدولة؟ مدنية أم دينية، أم سيشتغل الشرع إذا ما استتب له الأمر على إنشاء نسخة حكم خاصة به، أو قريبة من نموذج حز ب العدالة والتنمية التركي، أو نسخة تشابه حكم طالبان في أفغانستان رغم نفي أي محاولة لأفغنة سوريا؟
من خلال متابعة تصريحات الشرع، ثمة غموض في نيته حول شكل الدولة، إذ يحاول إغلاق أي حديث إزاء شكل الدولة حالياً، لكن إحدى تصريحاته حول كتابة عقد اجتماعي بين الدولة والطوائف قد يشير إلى أن لديه نية في إنشاء حكم إسلامي.
ثمة خطوط سياسية متوازية في سوريا أبرزها تيار المعارضة الليبرالية التقليدية، وتضم شخصيات من مختلف الطوائف في البلاد، لكن هذه الفئة انكفئت عن العمل في المعارضة السياسية، بسبب هيمنة تيار الإخوان المسلمين على الائتلاف المعارض والذي بدوره يضم شخصيات تتبنى أفكاراً ليبرالية، لكن النفوذ الأكبر في الائتلاف هو لجماعة الإخوان المسلمين.
ولدينا في المقلب الآخر الأحزاب الكردية التي أيضاً تتوزع بين الائتلاف والإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، ويعاني هذان الطرفان مشكلات معقدة من جهة الأفكار والولاءات. كما أن هناك شخصيات كردية مستقلة انكفئت عن العمل السياسي أيضاً، لكن أصواتها بدأت ترتفع بالتزامن مع سقوط بشار الأسد، إضافة لتيار النسوية السورية ومنظمات المجتمع المدني، هذا غير تكتل دول العقبة التي تبدو لا تتفق مع ما يجري في سوريا وتتمسك بالقرار الأممي 2254. والسؤال هنا كيف سيوازن أحمد الشرع بين كل هذه الأطراف مجتمعة أو منفصلة؟
فإذا اتجه لإنشاء دولة إسلامية، فإنه سيواجه خطر الاحتجاجات في مناطق مختلفة مثل الساحل السوري والسويداء والمناطق الكردية وحتى في دمشق نفسها. بينما لو اتجه نحو تشكيل دولة مدنية سيكون في مواجهة مباشرة مع الجماعات الإسلامية المتشددة، وعلى رأسها تنظيم القاعدة الذي بدأت بوادر تحركه ضد الشرع من خلال منصات بعض منظريها في مواقع التواصل الاجتماعي.
ولعل إنشاء حكم أقرب إلى نظام الولايات والإمارات في سوريا، قد يكون أحد خيارات الشرع حيث يعتمد نظام حكم إسلامي في دمشق وباقي مناطق الغالبية السنية في الداخل وشرقي سوريا مثل دير الزور. بينما يتم التساهل أو إنشاء صيغة حكم مدني في مناطق الساحل والسويداء والمنطقة الكردية.
أو قد نكون أمام دولة شبه فاشلة تعتمد نظام المحاصصة بهيمنة طرف مقابل ضعف باقي الأطراف كما هو الحال في لبنان. لكن التخوف الأكبر هو أن تتحول سوريا إلى النموذج الليبي، حيث تتشكل أكثر من حكومة بحسب مناطق النفوذ والطبيعة السكانية والجغرافية، تماشياً مع الأحداث والمتغيرات، وإذا ما حصل ذلك ستعود سوريا إلى المربع الأول، حيث تصاعد الصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية.