بينما يحتفل السوريون من مختلف الألوان والخلفيات والآراء بسقوط النظام الفاشي في دمشق وهروب رئيسه المذل، في زمن قياسي، تتباين المواقف إزاء المستقبل، وتنقسم بين متفائل ومتشائم ومتشائل (إذا ما جاز لنا أن نستعير عبارة إميل حبيبي). وثمة بيننا، نحن السوريين، من يدعم قائد هيئة تحرير الشام، الذي تقلّد مسؤولية الحكم في دمشق، تأييدا لا شيّة فيه ومن دون تحفظ. وبيننا من يدعم الرجل بقليل أو كثير من التحفظ. ثم بيننا من يرفضه جزئيا ومن يرفضه جملة وتفصيلا.
وهذا كلّه حسن فلا بأس في الخلاف والتباين. ما ليس حسنا هو الاكتفاء بالقول دون الفعل، من جانب شريحة كبيرة ممن يرفضون أحمد الشرع وصحبه (وما أبرؤ نفسي).
خير ما يمثلنا، نحن معشر السوريين من دعاة الدولة المدنية والعلمنة والديمقراطية وحقوق الإنسان عبارة “ظاهرة صوتية” التي اجترحها في السبعينات عبد الله القصيمي. اعتبر القصيمي أن الخطاب العربي ينوء تحت وطأة الشعارات والمفردات الرنانة التي تعبّر عن القوة والطموح، ولكنه يفتقر إلى الممارسات العملية أو القدرة على تحويل الأفكار إلى واقع. وبينما لم يكن القصيمي طبعا يخص المثقفين العلمانيين، ولكن هذا الوصف هو خير ما يميز العلمانيين.
لا يكفي أن نقول هذا خطأ، فالمهم أن نذكر الصواب، كما نراه. ولا يكفي التردد في سلوك سبيل معين، فالواجب طرح السبيل الآخر. العلمانيون السوريون، معظمهم، يكتفون بالانتقاد، دون أن يطرحوا بديلا أو سبيلا سوى السبيل المطروح أمامنا. وفي محاولة للخروج من هذه السلبية، سأحاول أن أستعيد هنا بعضا مما حاولت ثلة من العلمانيين السوريين بناءه ونشره في السنوات السابقة، وكنت شخصيا جزءا من هذا الجهد.
نافذة تاريخية
فتحَت التطورات غير المسبوقة الأخيرة في سوريا نافذة تاريخية لإعادة تشكيل مستقبل الأمة. وبصفتنا قادة في الشتات السوري، فإننا نحمل مسؤولية عميقة للدعوة إلى العدالة والديمقراطية والاستقرار في هذا المنعطف الحاسم. لا تمثل هذه اللحظة أهمية بالغة للسوريين فقط، بل تشكل أيضا نقطة تحول للمنطقة بأكملها. معا، يجب أن نستغل هذه الفرصة لبناء أساس لسوريا ديمقراطية وشاملة تضمن المساواة والحرية للجميع.
إن انهيار نظام الأسد نقطة تحول هائلة في تاريخ سوريا، ولعله – بالنسبة للسوريين من جميع الخلفيات، بمن في ذلك العديد ممن كانوا يدعمون النظام سابقا – يكون فرصة لتجاوز عقود من الاستبداد والقمع، ويتطلب منا ذلك أن نكرم تضحيات المقاتلين والمدنيين الذين قاوموا الطغيان ومهدوا الطريق لهذا الانتصار، لأن شجاعتهم هي التي وضعت الأساس لفصل جديد في تاريخنا المشترك.
لقد نصّب الحكم الجديد في دمشق حكومة انتقالية دون أن يستشير أحدا، ولا فائدة الآن في انتقاد هذه الخطوة، على الرغم من وجود أسباب كثيرة لنقدها. المهم بالمقابل التأكيد على وجوب تقيد الحكومة بصرامة بالفترة الوطنية المعطاة لها، وهي ثلاثة أشهر، لتجنب ترسيخ السلطة. وسيكون من المهم بعدها تشكيل إدارة تكنوقراطية يجب أن تشمل الجميع وتمثل التنوع الديني والإثني في سوريا، وتعطي الأولوية للكفاءة – لا الولاء – لمعالجة التحديات الملحة في الحوكمة. يجب أن يكون ذلك الخطوة الأولى من مشروع تطبيق قرار الأمم المتحدة رقم 2254، وهو الإطار الذي لا يزال حجر الزاوية في مسيرة الانتقال السياسي في سوريا، مع التأكيد على السيادة وسلامة الأراضي وعملية يقودها السوريون نحو السلام والديمقراطية.
في قلب هذا الانتقال، تكمن حماية الحريات الأساسية وترسيخ سيادة القانون. يجب ضمان حرية الاعتقاد والتعبير والصحافة، إلى جانب حقوق التجمع السلمي والتظاهر والإضراب. يجب السماح بنشاط المنظمات المدنية والسياسية دون قيود لتعزيز المشاركة الديمقراطية. سيوفر إطار قانوني يستند إلى إعلان دستوري انتقالي أساسا لمجتمع عادل ومنصف.
وفي الوقت نفسه، يشكل دور سلطات الأمر الواقع في دمشق تحديا معقدا، إذ لا تزال الحكومة المؤقتة ومَن وراءَها مدرجين على قوائم الإرهاب والعقوبات، على الرغم من وجود رغبة متزايدة لدى بعض الحكومات الغربية في مراجعة هذه التصنيفات. وبينما نعتقد أن رفع هذه العقوبات أمر أساسي وضروري، لا بدّ أن يترافق ذلك مرتبطا بإجراءات تظهر التزاما حقيقيا بالتشاركية والحوكمة الرشيدة وسيادة القانون.
دافع هذا المقال الدفاع عن رؤية لمستقبل سوريا تتمثل في الوحدة والمساواة والديمقراطية. يجب ضمان حقوق المواطنة الكاملة لجميع الأفراد المولودين من والدين سوريين، دون تمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس أو الجنسية أو اللغة. هذه الرؤية تفترض أن تنتقل الدولة إلى نظام ديمقراطي بالكامل، حيث تُنقل السلطة من خلال انتخابات حرة وسرية ومباشرة وفق مبدأ “مواطن واحد، صوت واحد.” يجب أن تتبنى الدولة التنوع كمصدر للقوة، مع البقاء محايدة في القضايا العرقية والدينية، لضمان أن تصبح سوريا وطنا لجميع مواطنيها. من خلال الالتزام ببناء دولة قوية ومستقلة وديمقراطية تتمسك بالحرية والعدالة والمساواة، يمكننا أيضا إنشاء دور إقليمي ودولي بناء لسوريا.
تحديات إنسانية
كان السقوط السريع لدمشق وفقدان نظام الأسد السيطرة على مدن رئيسية مثل حلب وحماة وحمص في غضون أقل من أسبوعين صدمة للسوريين والمجتمع الدولي على حد سواء. حدث هذا الانهيار دون تدخل كبير من روسيا أو إيران، مما يعكس مشاكل حقيقة كانت موجودة داخل معسكر النظام، ويؤكد ما كنا نعرفه من حجم الانهيار الاقتصادي والإرهاق المجتمعي ورفض النظام السابق في الانخراط في حلول سياسية. هذه اللحظة تؤكد الحاجة الملحة لاستراتيجية موحدة لمعالجة التحديات الإنسانية والاقتصادية المقبلة، بما في ذلك عودة اللاجئين، وحل قضية المفقودين، وإعادة بناء الاقتصاد السوري. يجب رفع العقوبات بمسؤولية، وربط ذلك بإصلاحات حقيقية ومساءلة، لضمان أن يعزز الانتقال الاستقرار بدلا من استمرار الضرر.
يجب أن تركز الترتيبات الانتقالية على الاستقرار والتشاركية، مما يخلق أساسا لإطار دستوري جديد. على الصعيدين الإقليمي والدولي، يعتبر استقرار سوريا أمرا ضروريا لتحقيق السلام ومنع المزيد من أزمات اللاجئين، ولذلك سيكون ضروريا العمل الجماعي من قبل الفاعلين الدوليين لدعم تعافي سوريا مع محاسبة منتهكي القانون الدولي.
إن انهيار نظام الأسد والفترة الانتقالية اللاحقة يمثلان فرصة لا تتكرر إلا مرة واحدة في كل جيل لسوريا. كأعضاء في هذا المجلس، لدينا التزام أخلاقي بالدعوة إلى نهج شامل ومبدئي يضمن العدالة والشمولية والاستقرار. أحثكم على الانضمام إليّ لتأييد هذا الموقف والعمل معا لتعزيز تأثيره بين شركائنا والمجتمع الدولي. معا، يمكننا المساعدة في تشكيل مستقبل أكثر إشراقا لسوريا.
اليوم التالي 2012 و2024
مرت اثنتا عشرة سنة منذ أن أطلقنا مشروع اليوم التالي، والذي كان سباقا ورائدا يومذاك، عندما كنا نعتقد أن سقوط النظام كانت مسألة أشهر أو أسابيع وكنا نسابق الزمن لوضع خطة انتقالية لسوريا الجديدة، فأطلقنا مشروع اليوم التالي في عام 2012 بهدف وضع تصور شامل وخطة استراتيجية للانتقال السياسي في سوريا من الحكم الاستبدادي إلى دولة ديمقراطية وشاملة للجميع، وقد جمع طيفا متنوعا من أصحاب المصلحة السوريين، بمن في ذلك قادة سياسيون وحقوقيون وناشطون وأكاديميون وأعضاء من المجتمع المدني، يمثلون مختلف شرائح المجتمع السوري. هدفَ المشروع إلى ضمان أن تكون الاستعدادات لمرحلة ما بعد الأسد شاملة وتعتمد على مبادئ العدالة والديمقراطية والاستقرار.
جاء إطلاق مشروع اليوم التالي استجابة لحاجة ملحة للتخطيط الاستراتيجي في ظل مرحلة بالغة التقلب، وكنا ندرك أن انهيار الأنظمة الاستبدادية غالبا ما يخلف فراغا في السلطة، يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار والصراع، كما حدث في أجزاء أخرى من المنطقة.
وقد ركز المشروع على تصميم إطار عمل يدعم الانتقال السلمي في سوريا، من خلال معالجة مجالات حيوية تشكل أساسا لمستقبل مستقر وديمقراطي، وهي:
– سيادة القانون: إنشاء إطار قانوني يضمن العدالة والمساواة والمساءلة.
– العدالة الانتقالية: معالجة مظالم الماضي وتعزيز المصالحة والتعافي المجتمعي.
– إصلاح قطاع الأمن: ضمان خضوع الجيش والشرطة للرقابة المدنية والالتزام بالمبادئ الديمقراطية.
– الإصلاح الانتخابي: تطوير آليات لإجراء انتخابات حرة ونزيهة تمثل جميع مكونات المجتمع.
– التصميم الدستوري: صياغة دستور يعكس التنوع السوري وتطلعات الشعب.
– السياسات الاقتصادية والاجتماعية: تعزيز جهود التعافي وإعادة الإعمار والتنمية العادلة.
وأسفر الجهد عن إعداد خارطة طريق شاملة بعنوان “اليوم التالي: دعم الانتقال الديمقراطي في سوريا.” وقد قدمت هذه الوثيقة استراتيجيات وتوصيات مفصلة تهدف إلى توجيه عملية الانتقال في سوريا، مع التركيز على مبادئ الشمولية واحترام حقوق الإنسان وتعزيز الحوكمة المستدامة.
واليوم، بعد أكثر من اثنتي عشر سنة عجاف، فقدَ اليوم التالي الكثير من راهنيته وتفصيلاته، ولكنه لا يزال معلما أساسيا ونقطة مرجعية أساسية في النقاشات حول مستقبل سوريا، يعكس المشروع أهمية التخطيط الاستباقي في ظروف النزاع وما بعد النزاع، كما يبرز دور السوريين في صياغة مستقبل بلادهم وبناء رؤية مشتركة قائمة على العدالة والديمقراطية والاستقرار.
اليوم التالي 2024
منذ سقوط النظام السابق، تسابق عدد من المجموعات السورية المدنية والعلمانية لإصدار مواقف سياسية. ولعل البيان الذي أصدرته أصدرت مجموعة السوريين الأمريكيين للميثاق الوطني في واشنطن يختصر أهم الرؤى المطروحة من هذه الزاوية. وأكدت المجموعة أن التغيير المطلوب لا يقتصر على الأشخاص أو الرموز، بل يجب أن يمتد إلى تغيير جذري في بنية الدولة السياسية والاجتماعية، وشددت على أهمية الوحدة الوطنية خلال هذه الفترة الانتقالية للدفاع عن حقوق الإنسان السوري وكرامته وضمان استقرار الوطن. واقترح.
وهنالك أيضا مجموعة القاهرة التي أصدرت نسخة محدثة من العهد الوطني الذي كان أطلقت نسخته الأول أيضا في عام 2012. في نسخته الحديثة يقدم العهد رؤية شاملة لمستقبل سوريا، ترتكز على قيم الحرية والعدالة والمساواة، وتعتبر الدولة كيانا تاريخيا يعكس الوعي الحضاري للشعب السوري، قائما على المواطنة المتساوية والشراكة الفاعلة بين جميع مكوناته. الدولة الديمقراطية المنشودة تعتمد على سيادة القانون، حيث تضمن حقوق المواطنة الكاملة دون تمييز، وتحمي الحريات الفردية والجماعية، بما في ذلك حرية التعبير والصحافة والتجمع السلمي، مع تمكين المجتمع المدني من تنظيم نفسه بحرية لتعزيز المشاركة الديمقراطية.
تسعى الدولة إلى إعادة بناء المؤسسات العسكرية والأمنية لتكون مستقلة عن التدخلات السياسية وتحت رقابة مدنية، وذلك بالتوازي مع عملية نزع السلاح تحت إشراف مجلس عسكري سوري يضم ممثلين عن مختلف الفصائل. كما تؤكد على أهمية وحدة الأراضي السورية وسيادة الشعب، مع الالتزام بالنضال المشروع لاستعادة الأراضي المحتلة والعمل مع المنظمات الدولية لضمان حماية السيادة والاستقرار الإقليمي.
يشدد العهد على المساواة في الحقوق بين جميع المواطنين، مع التركيز على المساواة المطلقة في الحقوق بين الرجال والنساء. كما يكرس العهد حماية الملكية الخاصة والعامة، ويؤسس لنظام اقتصادي عادل يعزز التنمية المستدامة، ويضع خطة شاملة لإعادة الإعمار، تشمل معالجة البطالة، ودعم عودة اللاجئين والنازحين بكرامة، ومكافحة الفساد من جذوره.
في المجال الدستوري، يضمن العهد الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ويؤسس لنظام ديمقراطي يتيح انتخابات حرة ونزيهة، تعكس تمثيلا عادلا لكل أطياف الشعب. كما يضع إطارا قانونيا يحمي كرامة المواطنين وحقوقهم، ويصون التنوع الثقافي والديني كمصدر قوة للشعب السوري.
وأخيرا، تؤكد الدولة على دورها الفاعل في النظام الدولي كعضو مؤسس في الأمم المتحدة، ملتزمة بتعزيز السلام العالمي والعمل لتحقيق نظام دولي عادل قائم على التعاون وتبادل المصالح. تشدد هذه الرؤية على أن سوريا وطن لجميع أبنائها، بعيدا عن الطائفية أو الإقصاء، مع السعي لبناء دولة حديثة تكرم تطلعات شعبها وتضمن حقوقهم وحرياتهم.
أخيرا، يبقى هذا الكلام كلّه حبرا على ورق ما لم يقترن بالفعل السياسي والضغط على الأرض، والأجدى أن يتم ذلك على الأراضي السورية، وليس في المنفى.