جزء وفير من مستقبل سوريا السياسي والثقافي والرمزي، وحتى الاجتماعي والاقتصادي، سيتوقف على العقيدة السياسية التي ستُبنى عليها بلادهم قادم الأياد، التي ستتمثل في البُنى المؤسساتية والخطابات العامة والمواثيق المُشيدة لدولتهم المنظورة، مثل الدستور والقوانين العامة واشكال تعريف الدولة ومهامها وأدواتها وحقوقها وواجباتها. هذه الأدوات التي لا يُمكن تحديدها وتعريفها وتأطيرها، دون أتفاق أولي وواضح على الشيء الذي عبره وتجاوزه السوريون، بعد أكثر من نصف قرن كامل من الكفاح، أي الاستبداد والنظام السياسي والعام الذي كانت تمثله الأسدية.
ثمة مساران واضحان يُمكن تندرج بهما المجريات، حسب تعريف الأسدية الذي سيستقر عليه السوريون، أو حاكموهم “المنتصرون” على أقل تقدير:
فأما أن يُعرف السوريون “الأسدية” على أنها “شخص” أو “عائلة” أو حتى “طائفة” أو “عصابة”، وتالياً يكتفون بتجاوزها عبر هزيمة هؤلاء الذين تسيدوا الفضاء العام، دون كسب أية عتبة سياسية أو مناعة قيمية أو طاقة رمزية، لأنها حسب ذلك التعريف أشياء تحطمت وانتهت، وفقط كذلك. الأمر الذي قد يفتح الباب مجدداً، ولمرات لا تُحصى، لإمكانية عودة الأسدية، وإن عبر أشخاص وعائلات وطوائف وعُصب أخرى.
التعريف الآخر يذهب لتعريف “الأسدية” باعتبارها منظومة من القيم والمؤسسات والخطابات والعلاقات الداخلية والإقليمية، كانت تستخدم أدوات مثل الاحتكار السياسي والقمع الأمني والمكاذبة الخطابية والنهب العام الاقتصادي واستغلال الحساسيات الطائفية والقومية والتدخلات الإقليمية والروابط الاستخباراتية الدولية، في سبيل أمر واحد، هو تأبيد سلطة الحاكمين، ومنع المجتمع السوري من القدرة على الانتظام والدفاع عن أبسط حقوقه الأولية، مثل المساواة كأفراد أمام القانون والحق المشترك في حضور كل الجماعات الأهلية السورية في الفضاء العام وحيادية الدولة تجاه الدين والحساسيات الطائفية والحلول دون اندفاع الدولة في اشكال من العنف والكراهية القومية.. الخ من الأشياء التي صارت بديهية في أنظمة العالم الحديث.
التعريف الأول لـ”الأسدية” عُصبوي، قائم على مخيلة ونوعية من التفكير الذي يعتقد أنه ثمة صراع ثنائي حول سلطة وملكية سوريا، بين جماعتين تتنازعان الأحقية في هذه الملكية، وتالياً سيكون مستقبل سوريا مرهوناً بيد الجماعة الغالبة، ومثلما كان ماضيها مملوكاً ومحتكراً لصالح جماعة أخرى، كانت بدورها غالبة ومهيمنة فيما مضى.
على العكس تماماً، فأن التعريف الموضوعي للأسدية، باعتبارها شكلاً من الحُكم ونوعاً من الحياة العامة التي فرضتها سلطة جبروتية على مجتمع دولتها ومؤسساتها ومواثيقها العامة، أنما يحول “الصراع” إلى مواجهة قيمية وسياسية، ترسم مسار التاريخ لهذا الكيان ومجتمعه، تعتبر أن ما حدث كان نتيجة كتلة من الاعتبارات السلطوية وأدوات القهر وأنواع المؤسسات الإكراه، التي يجب أن تُحطم كلها، بحُكم هزيمة الأسدية نفسها، التي كانت منسقاً عاماً فيما بينها. وتالياً تشييد البناءات القيمية والمؤسساتية والرمزية والسياسية السورية الجديدة، على العكس مما كانت عليها.
حسب السياق الأول، ستجرب سوريا طويلاً أقسى أشكال “العدمية السياسية” المستدامة، وسيخسر السوريون دماء مئات الآلاف من الضحايا، ومثلهم المُدن التي حُطمت واشكال الحياة التي دُمرت بسبب هذه الحرب الطويلة مع الاستبداد، التي وإن كانت على شكل ثورة خلال 13 عاماً الماضية، لكنها كانت مصارعة وحرباً يومية، خاضها السوريون منذ اليوم الأول لانقلاب حزب البعث عام 1963، الذي حطم ما كان من ملامح ديمقراطية وحريات عامة كانت في بلاد، فأغلق أنقلابيو ذلك الحزب الباب كل أشكال الحياة التي كانت، واستملكوا حاضر ومصائر السوريين، دون أية شرعية.
سيفتح السياق الأول باب “العدمية السياسية” لأنه سيمنح “بعثيين وأسديين آخرين” إمكانية تكرار ما فعله الأولون، وتالياً سيغدو تاريخ السوريين وبحر تضحياتهم أشياء دون معنى وقيمة، طالما صارت أشياء دون قدرة على التجاوز بحكم التاريخ والتجربة والمعاناة. فيما سيكون السياق الثاني بوابة لأن تجري نسائم حركة التاريخ/المستقبل في الحياة السورية، لأن يكون غدُّ السوريين مختلف تماماً عن ماضيهم وحاضرهم، أكثر مناعة بحكم التجربة.
في تاريخ سوريا المعاصر تجارب لا تُعد، شيد فيه “المنتصرون” أشكالاً من الجبروت والهيمنة، لا تقل قسوة وعنفاً مما قالوا إنهم انتفضوا ضدها. فالبرجوازية الوطنية السورية، التي قالت طويلاً إنها حاربت الانتداب الفرنسي طلباً لاستقلال وحرية سوريا، ما لبثت أن أسست أشكالاً مريعة من سوء العدالة الاجتماعية، كان الكثير من السوريين أقناناً في ظلالها، يترحمون على الماضي الفرنسي. الانقلابات العسكرية على السلطة البرجوازية فعلت الأمر نفسه، والأحزاب الشمولية الشعبوية، مثل تجربة البعث المديدة والمريرة، أعادت الكِرة بأكثر الأشكال قسوة. وهو أمر لا يود السوريون تكراره، هذا لو وضعوا تعريفاً مناسباً للأسدية المهزومة أولاً.