بعد أكثر من عقد من الصراع والحرب، تبحث سوريا عن مخرج يعيد لها استقرارها السياسي والاجتماعي، مع ضمان حقوق جميع مكوناتها العرقية والدينية. واحدة من الأفكار التي تُطرح بقوة هي اعتماد الفيدرالية كنظام حكم مستقبلي. هذا النقاش يحمل معه آمالاً بالحل، لكنه يثير في المقابل مخاوف بشأن وحدة البلاد.
الفيدرالية: تاريخ قديم ومفهوم معاصر
تُعرَّف الفيدرالية بأنها نظام سياسي ودستوري يتم بموجبه تقسيم السلطات بين الحكومة المركزية وإدارات محلية، بشكل يضمن استقلالية الأقاليم في إدارة شؤونها، مع بقائها تحت مظلة الدولة الواحدة.
وفي التاريخ السوري الحديث، ظهرت الفيدرالية خلال الانتداب الفرنسي، عندما قسمت سوريا في عام 1922 إلى دويلات طائفية، مثل دولة دمشق ودولة العلويين ودولة جبل العرب.
لكن هذا النظام لم يدم طويلاً، حيث توحدت دمشق وحلب عام 1925، وانتهى الانتداب الفرنسي بتأسيس الدولة السورية الموحدة.
ورغم ذلك، ظلت فكرة التقسيم تطفو على السطح كلما تعمقت الأزمات. ومع صعود حزب البعث عام 1963 وتكريسه حكم الحزب الواحد، زادت المركزية السياسية بشكل أضعف دور المناطق، وترك أثراً عميقاً من التهميش خاصة لدى الأقليات.
جدل الفيدرالية: الحل أم التفكيك؟
في العقود الماضية، تكررت الطروحات المتعلقة بالفيدرالية في دول تشهد تنوعاً عرقياً ودينياً. في سوريا، أثيرت المسألة بشكل أوسع بعد اندلاع الحرب عام 2011، حيث يرى البعض في الفيدرالية حلاً مناسباً لإدارة التنوع السوري وضمان حقوق المكونات المختلفة، فيما يخشى آخرون أن تؤدي إلى تقسيم البلاد على أسس طائفية وعرقية.
الدكتور عباس الجبوري، عضو الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين، يوضح لـ”963+”، أن “الفيدرالية ليست وصفة سحرية لحل جميع المشكلات، لكنها قد تكون ضماناً لحقوق جميع المكونات السورية”.
ومع ذلك، يشير إلى أن الفيدرالية تواجه تحديات كبيرة في سوريا، بدءاً من الأوضاع الاقتصادية المدمرة بعد عقد من الحرب، إلى البنية السياسية التي اعتمدت على حكم مركزي صارم طوال 56 عاماً، مما يجعل من الصعب تبني نظام جديد دون معوقات.
وتظهر الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا كنموذج محلي يُنظر إليه كمثال على الفيدرالية. هذه الإدارة التي يقودها الأكراد أعلنت، مؤخراً، رفع العلم السوري الجديد فوق مؤسساتها، في خطوة تعكس رغبتها في البقاء ضمن الدولة السورية مع الاحتفاظ بصلاحيات حكم واسعة.
وتصر الإدارة الذاتية على ضمان حقوق الأكراد في الدستور الجديد. وقالت الرئاسة المشتركة لحزب الاتحاد الديمقراطي إن “سياسات الإنكار والتهميش يجب أن تنتهي، وأن الحوار الوطني هو الطريق نحو سوريا جديدة”. هذه التصريحات تعزز من مكانة الأكراد كشريك محتمل في أي نظام فيدرالي مستقبلي، لكنها أيضاً تصطدم بمعارضة تركية وإيرانية.
التحديات الإقليمية والدولية
تركيا وإيران تقفان بشدة ضد أي شكل من أشكال الفيدرالية التي تمنح الأكراد حكماً ذاتياً. هذا الموقف ينبع من مخاوفهما من أن يؤدي نجاح النموذج الكردي في سوريا إلى امتداد الطموحات الكردية إلى أراضيهما، خاصة وأن كلا البلدين يضمان أقليات كردية كبيرة تطالب بحقوق مشابهة.
وعلى المستوى الدولي، لم تبدِ الولايات المتحدة أو روسيا تأييداً صريحاً للفيدرالية في سوريا. ومع ذلك، يشير الباحث اللبناني في الشؤون الجيوسياسية والتنمية والمقيم في مونتريال الكندية، نزيه الخياط، في حديث لـ”963+” إلى أن الدول الكبرى قد تقبل شكلاً من أشكال “اللامركزية الإدارية الموسعة”، كحل وسط يضمن وحدة سوريا دون إثارة مخاوف الإقليم.
ويتطلب تطبيق الفيدرالية في سوريا أولاً بناء توافق وطني واسع. يرى الخياط أن غياب هذا التوافق قد يؤدي إلى أزمات داخلية أكبر، وربما إلى حرب أهلية جديدة. ويضيف: “إذا لم تُجمع المكونات السورية على شكل النظام المستقبلي، فإن أي حل سيظل هشاً”.
اللامركزية الموسعة قد تكون الخيار الأنسب لسوريا في المرحلة المقبلة. بحسب الخياط، “يمكن لسوريا أن تستفيد من تجارب مجاورة مثل لبنان والعراق، لكن مع تفادي أخطائهما”. ففي العراق، أدى سوء تطبيق الفيدرالية إلى نزاعات بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان. أما في لبنان، فقد تركت بنود اتفاق الطائف ملتبسة، مما فتح الباب أمام صراعات سياسية مستمرة.
بين التصريحات والواقع
في خضم هذا النقاش، تأتي تصريحات أحمد الشرع أحمد الشرع، قائد قيادة العمليات المشتركة في سوريا وقائد “هيئة تحرير الشام”، لتضيف بعداً جديداً. إذ أكد أن الأكراد “جزء أساسي من الوطن”، مشيراً إلى أهمية الحوار لضمان حقوق جميع المكونات. هذه التصريحات قوبلت بحذر، إذ يراها البعض انعكاساً لتوجه جديد أكثر انفتاحاً، بينما يشكك آخرون في مدى التزامه الفعلي بهذه الرؤية.
وتبدو سوريا اليوم أمام خيارات صعبة، حيث يشكل النظام الفيدرالي فرصة لبناء دولة تحترم تنوعها، لكنه يحمل أيضاً مخاطر التفكك إذا لم يتم تطبيقه بحذر ووفق توافق وطني شامل.
ويقول الدكتور الجبوري: “نجاح الفيدرالية في سوريا يعتمد على وجود دستور يضمن العدالة، ومشاركة حقيقية لجميع المكونات في الحكم، مع الحفاظ على وحدة الدولة”.
بالمقابل، يطرح نظام “اللامركزية الإدارية الموسعة” نفسه كبديل أكثر واقعية، خاصة إذا أخذ في الحسبان الحساسيات الإقليمية والدولية. وفي كل الأحوال، يبقى مستقبل سوريا مرهوناً بقدرة شعبها على تجاوز الانقسامات، وبناء دولة قوية تحفظ حقوق جميع أبنائها.
وتواجه سوريا اليوم منعطفاً حاسماً، حيث يبدو أن أحمد الشرع (الجولاني سابقاً) يلعب دوراً رئيسياً في المشهد السياسي. يرى الدكتور عباس الجبوري أن “أفكار الشرع متجذرة في أيديولوجيا “داعش” المتطرفة التي ترفض التعددية، مما يجعله غير مؤهل لدعم الفيدرالية أو أي نظام يحترم التنوع السوري”.
في المقابل، يختلف الباحث نزيه الخياط، مشيراً إلى أن تصريحات الشرع الأخيرة بشأن احترام مكونات المجتمع السوري والحوار الوطني تحمل “إشارات إيجابية”. لكنه يؤكد أن “التقييم الحقيقي يعتمد على الأفعال وليس الأقوال”. وهذا ما أشار إليه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، عندما دعا إلى انتظار خطوات الشرع الفعلية لتحقيق وعوده.
بدوره، أكد توم حرب، عضو الحزب الجمهوري الأميركي، لـ”963+” أن واشنطن تراقب تحركات “هيئة تحرير الشام” لترى إن كانت ستؤسس نظاماً ديمقراطياً شاملاً يحترم الحريات، أم ستعود إلى ممارسات متطرفة تعكس أيديولوجيا الإسلام السياسي.