رأى السوريون والعالم كله المشاهد المروعة من سجن صيدنايا العسكري، الذي وصفته المنظمات الدولية “بالمسلخ البشري”، إذ أُطلق سراح عدد من المعتقلين بعد سقوط نظام بشار الأسد. وقد شهد السجن إعدامات جماعية وتعذيباً مروعاً، حيث أُعدم فيه ما بين 30 إلى 35 ألف سجين بين عامي 2012 و2022، إلى درجة أنّ مدير رابطة معتقلي صيدنايا وصف وضع المعتقلين في السجن “كان الموت أمنية”.
الهولوكوست السوري
قد كان بادياً على المعتقلين الخارجين من السجن، النحول الشديد والشحوب، الناجم عن سوء التغذية، بالإضافة إلى آثار التعذيب الجسدية والنفسية، وقد تحدث أطباء سوريون يعملون في هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية لمجلة “بي إم جيه” البريطانية عن مشاهد “شبيهة بالهولوكوست” لسجناء صيدنايا العسكري المحرر، إذ يصف الطبيب كريم الجيعان حال المعتقلين بأنه “يشبه ما رأيناه في معسكرات الاعتقال النازية المحررة بعد الحرب العالمية الثانية”.
في سجن صيدنايا، يتلقى المعتقلون وجبة واحدة يومياً، تتكون غالباً من رغيف وطعام رديء، يُمرر عبر فتحة صغيرة في الباب، ويسبب الاعتماد على هذه الوجبة نقصاً حاداً في العناصر الغذائية، ما يؤدي إلى سوء التغذية الشديد لدى المعتقلين، بالإضافة إلى الظروف داخل السجن الذي يفتقر إلى التهوية والضوء، وتشير الشهادات إلى أن بعض المعتقلين كانوا مضطرين لأكل الطعام الذي يُلقى في المرحاض للبقاء على قيد الحياة.
وتحدث متلازمة إعادة التغذية عندما يبدأ الجسم في استعادة التغذية بعد فترة طويلة من الحرمان، مما يؤدي إلى عودة مفاجئة للنشاط الاستقلالي (عمليات الهدم والبناء التي تحدث في الجسم). خلال فترة سوء التغذية، يتكيف الجسم بتقليل نشاطه الاستقلابي واستخدام الدهون والعضلات لتوليد الطاقة (لذا نرى السجناء نحيلين)، مما يجعله أقل قدرة على معالجة العناصر الغذائية.
وعند إعادة التغذية، يحدث استهلاك سريع للعناصر الأساسية مثل الفيتامينات والمعادن، ما قد يتسبب في اختلالات خطيرة في مستويات شوارد الدم. هذا التحول قد يؤثر سلباً على الأعضاء الحيوية مثل القلب والرئتين والدماغ.
ومن بين المعتقلين المفرج عنهم عبد الوهاب دعدوش (33 عاماً)، وهو طالب طب غُيّب قسراً عام 2011 أثناء توجهه لإجراء امتحان في مدينة حماة، وقد خرج نحيلاً وضعيفاً، يعاني من فقدان قدراته العقلية، ولا يعرف اسمه ولا يستطيع تحديد هويته، ومن شدة التغيرات التي فرضتها التغذية السيئة والتعذيب الوحشي، فقد تغيرت ملامح عبد الوهاب، لدرجة أنّ أهله لم يتعرفوا عليه في البداية.
مضاعفات خطيرة
وبما أنّ الولائم التي تقام على شرف العائد من السفر والخارج من السجن هي عادةٌ أصيلة في الثقافة السورية، فقد حذر الأطباء من “متلازمة إعادة التغذية”، والتي قد تسبب مضاعفات مهددة للحياة، مثل النوبات والسكتة القلبية، بسبب تلقي مريض سوء التغذية الشديد جرعة كبيرة ومفاجئة من العناصر الغذائية إثر تناول كميات كبيرة من الطعام.
وقد وُصفت متلازمة إعادة التغذية لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية أثناء إعادة إدخال التغذية إلى السجناء الجائعين وسوء التغذية، إذ أظهر السجناء اضطرابات قلبية وعصبية بعد وقت قصير من بدء التغذية.
وبعدها أُبلغ عن متلازمة إعادة التغذية لدى المرضى الذين يعانون من فقدان الشهية العصبي ومدمني الكحول المزمنين والمسجونين في ظروف سيئة.
حتى الطعام العادي ممنوع
توجهت أخصائية التغذية السريرية مايا عبيد، مقيمة في أستراليا في حديثها لـ”963+“ لأهالي المعتقلين المفرج عنهم “إذا كنتم تعرفون أنّ ابنكم كان يعيش في ظروف سيئة ولفترات طويلة في السجن، فيجب أن يخضع لتقييم طبي في المشفى أو في عيادة الطبيب، وذلك قبل أن يتناول طعامه في المنزل”.
وأوضحت “قد يعتقد البعض أنّ متلازمة refeeding لا تحصل عند المعتقل المصاب بسوء التغذية، إلا في حال إفراطه بالطعام أو تناول الدسم والحلويات، والحقيقة أن هذه المعلومة خاطئة طبياً، فقد تحدث المتلازمة في حال تناول المريض لطعام عادي، لذا فالتقييم الطبي مهم جداً”.
وعند سؤالها عن النصائح الغذائية للمعتقلين المفرج عنهم، أكدت عبيد “لا يمكن تقديم نصائح تنطبق على الجميع، فكل مريض هو حالة خاصة بحد ذاتها، تحتاج تدبير مختلف، فقد يتطلب مريض سوء التغذية المديد نصف كمية الطعام العادية وقد تكون أقل من ذلك حسب الأعراض وعوامل الخطورة وعوامل أخرى متعددة، لذلك فالتقييم الطبي لا مفر منه”.
وفي سياق متصل يقول جوان رسول، طبيب سوري مختص في أمراض الجهاز الهضمي، مقيم في ألمانيا، لـ”963+“ إنّ متلازمة إعادة التغذية “اختلاط خطير مهدد للحياة يحدث عند إعادة تقديم الغذاء للأشخاص الذين حرموا من التغذية الجيدة لفترات طويلة”.
وعن أعراضها يجيب رسول “تعب وإنهاك، غثيان، وذمات، ضيق نفس، تسرع بالقلب، رعاش وتشنجات، خدر وتنميل بالأطراف”.
وفي حال معاناة المرضى من هذه الأعراض “يجب تقليل كمية الغذاء، وتعويض شوارد البوتاسيوم والفوسفات والمغنزيوم، والتيامين (فيتامين ب١)، وذلك تحت إشراف طبي دقيق”.
وأضاف: “حسب الصور فإن أغلبية أوزان المعتقلين تتراوح بين الأربعين والستين كيلوغرام، لذا فإنّ غالبيتهم يجب أن يأخذوا 500 إلى 600سعرة خلال الأيام الأولى، هذه أرقام تقريبية يحددها الطبيب الفاحص”.
وأكد رسول، على أنّ الوقاية أهم من العلاج، لذا “يجب إعطاء التيامين وهو فيتامين B1 وقائياً لجميع المرضى، وأنصح الزملاء الأطباء بإعطائه وريدياً ثم تخريج المريض على جرعات فموية، وأوصي الأطباء بتعويض الشوارد ولو كانت مستوياتها حدية (أي على الحد الأدنى الطبيعي)، والسوائل حسب الحاجة”.
وشدد رسول على أنّ المتلازمة غير شائعة ومعظم الأطباء يعرفونها فقط لدى مرضى الأورام ومرضى القهم العصبي، لذا فإنّ “الأعراض والوقاية والعلاجات المقترحة مبنية على المعلومات الطبية المتوفرة عن مرضى القهم والأورام، أما المعتقلين السابقين قد يكون لديهم أشكال أخرى من هذه المتلازمة وقد يكون لديهم غالبا أمراض وأعراض أخرى غير معروفة طبياً”.
لذا فقد وجه نداء لكل الأطباء ”أن لا يبخلوا بنشر أي معلومة أو ملاحظة عن المعتقلين المحررين خلال معاينتهم أو معالجتهم بالفترات المقبلة”.