خاص – سلوى زكزك
“حتى كلمة ’ميرسي‘، أي شكراً بالفرنسية، والتي كنا نرددها أحياناً في سوريا، ما عدت أستعملها منذ وصولي إلى فرنسا”. هذا ما تقوله زهرة لـ”963+” ضاحكةً، بعد مرور 10 أعوام على وجودها في فرنسا. فهي لا تتكلم الفرنسية، ولم تنخرط في أي دورة لتعلم أبسط مبادئ الفرنسية، وفي الحقيقة، لا تعرف معنى أي كلمة فرنسية على الإطلاق.
وزهرة ليست وحيدة في هذا الأمر، إذ يبدو أنه ثمة قطيعة طوعية ومحكمة مع اللغة الغريبة في البلاد الغريبة، يمارسها سوريون وسوريات باستخفاف وتهرّب معلن، لكن غير معترف به، وكأنهم يحاولون تصوير هذه القطيعة وكأنها طبيعية جداً، خصوصاً في ظروف إنكار وادعاء عدم احتياج اللاجئ أو اللاجئة إلى استعمال اللغة الغريبة.
والملاحظ أن النساء يمارسن هذا الإنكار بنسبة أكبر، وكأن اللغة في البلد الغريب لا تعني لهن شيئاً، وما تهرّبهن الصامت والمغلف بالتجاهل إلاّ ردة فعل تتحول إلى عادة لا تعترف بالتردد أو بالتقصير، ولا حتى مجرد الكسل. ولا ترتبط ردة الفعل السلبية تجاه اللغة الجديدة بغياب الرغبة في تعلّمها كما يدّعين، بل يراوغن ذواتهن والآخرين ويظهرن أن قرار الانسحاب من التعلم عادي جداً، ومقبول، ومتكرر لدى كثيرين وكثيرات، ولا يحتمل هذا الاهتمام الزائد.
وبحسب تقرير تحليلي أصدره مركز “جسور للدراسات” عن توزع السوريين داخل سوريا وخارجها في عام 2023، يعيش في فرنسا نحو 50 ألف لاجئ سوري، علماً أن عدد السوريين هو الأكبر عالمياً بين اللاجئين، إذ أُبلِغَ عن وجود أكثر من 6,5 ملايين لاجئ سوري موزَّعين في 130 دولة في العالم، في بداية عام 2024.
ثقة بلغة كونية
في الترام، جلس ستيني ملامحه سورية، تظهر عليه فجأة علامات الضياع. تقدم نحوي حاملاً ورقة مكتوب عليها بالفرنسية اسم الموقف الذي ينبغي عليه مغادرة الترام حين الوصول إليه. أجيبه بالفرنسية، لكنه يزداد حيرة وهلعاً، باللاشعور الضمني لغريبة تجاه غريب أعزل من المقدرة على التواصل. قلت له بالعربية: “الموقف التالي”، فاستعاد وجهه لوناً غادره، وضحك، كأنه استعاد أماناً فارقه منذ لحظة. سألته كيف يخرج من منزله وهو يجهل الفرنسية، ولا يعرف حتى الضروري منها! فأجابني بأنه يعرف اسم الموقف لكنه لا يعرف القراءة، وبأنه يعرف الموقف من الموسيقا التي تصدر وتسبق التوقف.
نعم، لقد اعتمد الموسيقى لغة كونية. فلكل موقف موسيقاه الخاصة، وأحياناً تختص المواقف المعروفة بأنها رسمية أو عامة مثل جامعة أو مقر حكومي وربما سوق شعبي كبير، لكن اليوم يبدو أن موسيقا الترام معطلة، لذلك جفل فجأة فالوقت طال ولم يسمع موسيقاه التنبيهية التي تشير إلى الموقف المطلوب. وهكذا، غابت نغمة موسيقية فكثفت الغياب الجسدي والتغيب الطوعي وربما الهروب من تعلم اللغة، ليس بسبب العجز أو عدم الرغبة بتحقيق الاندماج فحسب، بل بسبب الخوف من الآخر، من لغته الصعبة، ومن تقييم المعلمين في دروس الفرنسية الإجبارية، ومن فارق العمر الكبير بينه وبين شبّان وشابات قدموا بحماسة كبيرة ليتعرفوا إلى التفاصيل المهمة والأساسية في بلد غريب، لا يمد يده للأضعف، وليثبتوا حضورهم بقوة مطلوبة، لكنها مجدية ولها أثر كبير.
تشتري زهرة خضرواتها وكل ما يحتاجه بيتها من البقالة التركية. لا تتكلم مفردة فرنسية واحدة، ولا تعرف الأرقام، ولا تحصي النقود المطلوبة للدفع ولا المعادة إليها بعد الدفع. يعرفها صاحب البقالة وزوجته والعاملون هناك، وهذا يمنحها راحة نفسية عميقة. فهي تختار كل ما تريد، ولا تحتاج إلا لكلمة “نُص”، تقولها بالعربية للجزار، ومرادها نصف كيلو من اللحم. وتمد يدها بما تحتويه محفظتها الصغيرة، فيأخذ المحاسب مبلغاً منه، وهذا مبلغ لم تجرب يوماً أن تتأكد من صحته، ثم يعيد لها الباقي. تقول زهرة: “إذا بدي دقق بضيع!”، وتكرر: “الله يسامحهم” وتصمت!
زوج زهرة مصاب بالاكتئاب منذ غادر سوريا. وهنا، في بيته الجديد البعيد جداً، اختار زاوية ومقعداً لا يتركهما إلا لتناول الطعام أو لقضاء حاجة، وكل ما هو خارج هذه الدائرة الضيقة لا يعني له شيئاً، فَلِمَ إذاً دروس اللغة الجديدة الغريبة وغير المجدية؟
والجدير ذكره أن فرنسا إحدى أهم الدول التي تستقبل اللاجئين، خصوصاً من العرب الذين ترتفع نسبتهم فيها يوماً بعد يوم، لكنها لا تتبع سياسات الدول الأوروبية الأخرى، أي إنها لا تجبر اللاجئين على الالتحاق بمدارس ومعاهد متخصصة في تعليم الفرنسية للأجانب. فبحسب القانون الفرنسي، قد يقضي اللاجئ 400 ساعة في تعلم الفرنسية، ممولة من المكتب الفرنسي للهجرة والاندماج، وذلك في أثناء استخراجه أوراق الإقامة وخضوعه للإدماج. ثم يُفرز اللاجئون ويرسلون إلى مراكز تدريب متعاقدة مع الحكومة الفرنسية، يتعرفون فيها على ثقافة البلد وأسلوب الحياة فيه.
وبعد نهاية فترة التعليم هذه، يمدد المكتب نفسه فترة التعليم لبعض المتفوقين ختى مستويات أعلى، وبنفس الأسلوب والمناهج، غير أن ذلك لا يفيدهم في تعلم الفرنسية بسبب حاجتهم إلى تعلمها قبل الالتحاق بهذه المراكز. ويتوجه كثير من اللاجئين اليوم إلى مراكز اللغات بالجامعات، التي تقدم دورات لتعليم اللغة لأجانب يودون استكمال دراساتهم، وهي مجانية للاجئين.
تكثيف للغربة والغياب
يتحدث الشباب مازحين عن أخطاء وقعوا فيها عندما تكلموا الفرنسية في المرات الأولى. فثمة حروفٌ ساكنةٌ لا تلفظ، وكلمات لا يفهم الغريب معناها الصحيح، فيجيب فوراً من دون التأكد من صحة الرد. يعبر بعض هذه الأخطاء بسلاسة وتفهمّ، في جو من الدعابة أو المسايرة، خصوصاً إذا فُهِم المعنى العام، وتمر عقبات اللغة بتشجيع البعض وتفهم البعض الآخر في أحيان قليلة، لكن يبقى الاستهجان سيد الموقف، ويولّد انكفاءً قد تطول مدته الزمنية. فثمة أشخاص يتلعثمون في كل محادثة، لكن في المقابل ثمة يد طيبة تطبطب على كتف خجولة ومترددة قائلة: “البدايات صعبة دائماً، والشجاعة مطلوبة؟”.
يتفاصح بعضهم، فيسترسلون في إسداء النصائح التي تتحول في مرات كثيرة إلى وصاية مقيتة. وتولّد محاولات الاستعلاء من خلال تقديم نصائح مطلقة وعصية على التفهمّ ردات فعل سلبية أكثر، تضيّق دائرة الإقدام والمثابرة. وتحضر أمامي صورة روزا، السورية السبعينية التي لم تتعلم الحرف الأجنبي أبداً في بلدها، وتركت المدرسة في الصف الثالث الابتدائي. قكيف لها أن تتعلم الفرنسية الآن، وهنا في فرنسا؟ عند كل سؤال تطرحه المعلمة، تبكي روزا، ويمتقع وجهها بخجل كبير. تحاول التعبير بيديها قاصدةً القول إنها لا تملك شيئاً لتقوله، وهي لا تملك القدرة على التعلم ولا على المشاركة! كل لغات العالم الآن مجرد صخرة تسد طريقها إلى الاستقرار والشعور بالرضا.
وتبقى اللغة الغريبة تكثيفاً للغربة والغياب، وكل محاولات تعلّمها بالتلقين أو التنميط أو الإجبار ستجعل من فرص التلاقي العفوية حاجزاً همجياً وبلا كلمات للتعبير. ليس اللجوء فرصة للنجاة فحسب، ولا للتعلم غير المشروط، بل هو حواجز متعددة لا يتجاوزها إلاّ الأقوياء. إن اللجوء في شكله الأولي تغييب لقوة البقاء، حيث اللغة الممكنة، اللغة غير المستحيلة.