سقط بشار الأسد. انتهى النظام الذي أرساه حزب “البعث العربي الإشتراكي” منذ نصف قرن من الزمن وأكثر. هذا الحدث الأبرز في المشرق، وكل ما عدا ذلك تفصيل.
فرحة السوريين عارمة. أصوات الأهازيج تعلو من أقصى دمشق إلى حلب، وتتناغم مع نبضات الحرية في درعا وإدلب والقامشلي والحسكة ودير الزور. الشعوب الجارة، من اللبنانيين والفلسطينيين إلى الأردنيين والعراقيين، يشاركون في هذه اللحظة، ليس فقط كمتفرجين بل كأصحاب مصلحة في ولادة شرق جديد.
مئات الآلاف من جيران سوريا دفعوا حياتهم ثمناً لنظام “البعث”. لم يكن الوالد أقل قسوة من الإبن، فالأسدان عُرفا بجرائمهما وبطشهما وعنفهما الخارج عن كل طور وإنسانية.
لكن، ومع انطفاء شعلة الاحتفالات، تبدأ الأسئلة الكبيرة. من سيحكم هذه البلاد وكيف؟ سوريا الغد ليست ملكاً لطائفة أو حزب أو عرق بعينه. إنها لكل السوريين، بكل ألوانهم وأديانهم وانتماءاتهم. الطريق الوحيد للمستقبل هو التعاون، وليس التصادم؛ التشارك في الحكم، وليس التفرد به؛ بناء نظام تآلفي جديد، وليس إعادة تدوير أنماط القمع.
إنها لحظة المسؤولية الوطنية. لا انتقام، بل محاسبة عادلة. العدالة هي الحجر الأساس في بناء سوريا الجديدة، ولكن يجب أن تكون عدالة لا تُحمّل طائفة أو عرق وزر جرائم أفراد. التسامح، في لحظة الانتصار، هو الخطوة الأولى لتحقيق المصالحة الحقيقية.
الساعات الأولى لما بعد “سوريا الأسد” تكشف عن جوهر حلم السوريين. فتح السجون، وعودة الأحبّة، وزيارة قبور الأهل والأصدقاء، هي الأماني التي طالما كانت مؤجلة. من هذه الأحلام البسيطة، تبدأ سوريا الجديدة. هذا الوطن لا يطلب الكثير أصلاً، بل القليل فقط: الحرية، الكرامة، والعدالة.
والكل يعلم أن القادم لن يكون سهلاً، وسيكون مليئاً بالتحديات. إعادة بناء المدن والقرى، وإعادة ملايين اللاجئين إلى ديارهم، وإصلاح الاقتصاد المنهار، كلها مهام مرهقة ومخيفة على الحكام الجدد.
ما تحتاجه سوريا الآن ليس زعيماً جديداً، بل عقداً اجتماعياً جديداً. عقد يضمن مشاركة الجميع في صنع القرار، وحماية حقوق كل المكونات، والاعتراف بجرح الماضي دون أن يتحوّل إلى سكين في قلب مستقبل سوريا الموعود.
هذه فرصة لن تُعوض. إذا أُهدرت في دوامة الصراعات السياسية والطائفية، أو بين فصائل المعارضة، فستُكتب سوريا في دفاتر التاريخ كمأساة أخرى. أما إذا انتهزها السوريون لتأسيس وطن للجميع، فستصبح رمزاً لانتصار الإرادة الإنسانية على الاستبداد.
بناء سوريا الجديدة بفرحة اليوم، وبحكمة النظر إلى المستقبل، هو الأساس. إن فتح صفحة جديدة، بيضاء كما حلم السوريون بها، فرصة ممكنة اليوم. صفحة تكتب فيها قصة تآلف، لا انتقام. قصة وطن لجميع أبنائه، حيث لا تُهيمن طائفة على أخرى، ولا يُقصى مكون بسبب هويته. سوريا الجديدة يجب أن تكون نموذجاً للعيش المشترك، حيث يحكمها دستور يعترف بحقوق الجميع دون استثناء، ويؤسس لنظام سياسي مبني على الشراكة الحقيقية والمساءلة.
في يوم سقوط بشار، لا بد أن يتذكر السوريون أن الحرية التي دفعوا من أجلها أغلى الأثمان، لن تكون مكتملة إلا إذا استطاعوا أن يحافظوا عليها بأيديهم. الحرية ليست لحظة عابرة ولا فرحة مؤقتة؛ إنها مسؤولية جماعية تتطلب وعياً واستعداداً للتضحية من أجل بناء دولة القانون.
إن الخوف من المستقبل طبيعي، لكن التراجع إلى الوراء ليس خياراً. المخاوف من التشرذم والانقسامات مشروعة، لكنها لن تُواجه إلا بالوحدة والتشارك. مستقبل سوريا لا يجب أن يبقى في أيدي الدول الكبرى التي تقاسمت النفوذ على أرضها لعقود، بل في أيدي السوريين أنفسهم. كل مدينة وقرية، كل شارع وحي، يجب أن يكون جزءاً من عملية إعادة البناء، ليس فقط مادياً بل معنوياً وسياسياً.
التحديات التي تنتظر سوريا هائلة: كيف سيتم استيعاب الاختلافات بين مكوناتها؟ كيف سيُعاد بناء الثقة بين المجتمعات المختلفة التي مزقتها الحرب؟ كيف ستُدار عملية المصالحة الوطنية؟ الإجابة تبدأ من الاعتراف بأن لا أحد يملك الحقيقة المطلقة، وأن الحلول لن تأتي إلا من خلال الحوار والتفاهم.
لتكن أولى الخطوات تأسيس مجلس وطني جامع يمثل كل المكونات، مهمته رسم خارطة طريق للمرحلة الانتقالية. هذا المجلس يجب أن يعمل على وضع أسس نظام سياسي جديد يقوم على الفصل بين السلطات، وحماية الحريات، وضمان حقوق الأقليات. سوريا المستقبل لا تحتاج إلى نظام استبدادي جديد بوجه مختلف، بل إلى ديمقراطية حقيقية تتيح لكل صوت أن يُسمع ولكل رأي أن يُحترم.
وسط كل هذا، يجب أن لا تُنسى أولوية العدالة. على السوريين أن يواجهوا ماضيهم بشجاعة، وأن يحاسبوا من ارتكب الجرائم بحق الشعب، لكن دون أن يتحوّل ذلك إلى دائرة من الثأر والكراهية. العدالة الانتقالية يمكن أن تكون جسراً للعبور من الماضي المظلم إلى مستقبل أكثر إشراقاً.
إن سوريا الجديدة لن تُبنى في يوم أو شهر أو حتى سنة. إنها رحلة طويلة، لكنها رحلة تستحق أن تُخاض. الطريق مليء بالعقبات، لكنه أيضاً مليء بالأمل. فالشعب الذي صمد أمام أعتى أشكال القمع، وقاوم بشجاعة غير مسبوقة، قادر على أن يبني وطناً يحتضن الجميع.
في هذا اليوم التاريخي، فلنتذكر أن سوريا ليست ملكاً لطائفة أو عرق أو حزب أو فصيل، بل هي ملك لكل أبنائها، أما بنائها جدياً فيكون بمشاركة الجميع أو لا يكون. انتهى الأسد الذي قيل عنه يوماً أنه باقٍ إلى الأبد. وحدها الشعوب تبقى إلى الأبد.