كان يكفي أن يضع أحدنا نفسه مكان المهجرين والمشردين من سكان مخيمات الذل والعار، أو من الذين يتعرضون لعنصرية مقيتة في دول الجوار، أو من لم يستطع العيش خارج سوريا لأي سبب من الأسباب. كان يكفي أيضاً أن يضع أحدنا نفسه مكان عوائل المعتقلين والمختفين والمغيبين في سجون معتقلات الأسد منذ سنوات دون أن يكون لديهم أي معلومة عن مصائر أحبائهم. كان يكفي أن يضع أحدنا نفسه مكان أي من هؤلاء كي يستطيع تفسير الفرح الذي أصاب سوريين كثر مع تقدم عناصر هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) وقائدها الجولاني وسيطرتها الكاملة على مدينة بحجم مدينة حلب وريف إدلب وبعض ريف حماة بعملية عسكرية حملت عنوان (ردع العدوان)؛ وما تلاها من عودة بعض المهجرين إلى قراهم وبلداتهم وخروج عدد كبير من المعتقلين من سجون حلب بعد الإفراج عنهم من قبل مقاتلي الهيئة. هذه أسباب تجعل أي سوري انحاز للثورة ذات يوم ويرى أن لا خلاص لسوريا سوى برحيل نظام الأسد بكل المنظومة التي تثبته في حكمه، أن يشعر ببعض الأمل وتعود ذكريات السنة الأولى من الثورة والأحلام الكبيرة بالتغيير لتحتل تفكيره. ذلك أنه اتضح أن لا أحد منا استطاع النجاة من براثن سوريته، مهما قلنا أو ادعينا عكس ذلك وأثبتنا قدرتنا على العيش والتجاوز والاندماج في مجتمعاتنا الجديدة. فلا أحد منا خرج من سوريا بإرادته أو بتخطيط مسبق، كلنا تقريباً خرجنا هرباً أو خوفاً آملين أن نعود بعد شهر أو شهرين تحولت إلى أكثر من عقد دون أن يلوح أي أمل في العودة بالأفق. هذا كله جعل كثر من السوريين يعبرون عن فرحهم بتلك العملية فلعلها تحمل أملاً بتغيير ما لحالة الاستعصاء السورية الراهنة.
غير أن الطريقة التي دخلت بها قوات الهيئة إلى حلب وباقي الريف كانت تنذر بما هو غير طبيعي. إذ من قبل وصولها كانت عناصر الجيش السوري النظامي تنسحب بسرعة تاركة خلفها عتاداً عسكرياً وأمكنة فارغة، لم تجد عناصر الهيئة أية مقاومة تذكر في سيطرتها على مدينة حلب. لم يقف في وجهها أحد، احتلت المدينة بسهولة ويسر وبسيناريو يذكر بتسليم مدينة الرقة لـ”داعش” ذات يوم دون أن يدرك أحد من أعطي الأوامر لقوات الجيش النظامي بالانسحاب السريع، ولا الهدف من ذلك.
ثمة ما يجري في الخفاء. هذا هو لسان حال العديد من السوريين ممن لم تصبهم الفرحة بالضبابية. إذ ليس من المعقول أنه بين يوم وليلة يحدث ما حدث ببساطة شديدة وتنقلب حال مدينة بالغة الأهمية كمدينة حلب لتخرج من تحت سيطرة النظام والحرس الثوري الإيراني لتقع في قبضة ميليشيات جهادية ليست جيشاً كبيراً ولا منظماً كما يجب حتى.
ومع التخوف من فرح الصدمة الأولى في الأيام القليلة التالية، ظهر أن هذا التقدم البري السريع لا يستطيع أن يردع سوى عدواناً برياً، لا يمكنه ردع العدواني الجوي. ثمة اتصالات ومفاوضات هنا وهناك حدثت بين النظام السوري وبعض الدول المعينة تلاها مباشرة عودة الطيران الحربي السوري مع الطيران الحربي الروسي بقصف حلب وإدلب والريف من حولهما. هكذا عاد المدنيون لدفع أثمان باهظة دون أن يكون لهم أي يد بما حدث ويحدث. لم يستشرهم أحد فيما يقرر لمدنهم ولم يأخذ أحدهم رأيهم في تقرير مصائر حياتهم ولا يهتم أحد، أساسا، بهذه المصائر، وكأنهم ليسوا أكثر من أدوات لا قيمة لها تستخدم في الألعاب السياسية والمغامرات العسكرية غير المحسوبة لهذا الفصيل أو ذاك أو لهذه الدولة أو لتلك. أو ربما هم ليسوا أكثر من وظيفة، كما أطلق عليهم أحد الأصدقاء، في دروس السياسة الدولية القذرة.
لن أتحدث هنا عن (الوطنية) فيما حدث، ذلك أن مصطلح الوطنية بات فضفاضاً ويمده كل طرف على قد أهوائه، إذ ثمة من يرى الوطنية في الطائفة وثمة من يراها في الإيديولوجيا وثمة من يراها في العرق، بات لدينا في سوريا وطنيات كثيرة لا تتوافق إحداها مع الأخرى. ولا يبدو أنها ستتوافق، فمثلاً يرى البعض أنه من الوطنية عودة مهجري حلب وريفها إلى بيوتهم لكن هذه الوطنية لا تنطبق علي مهجري مدينة عفرين الأكراد الذين تم تهجيرهم من قبل (الجيش الوطني) المدعوم من تركيا، والمشارك في عملية السيطرة على حلب، ليتم توطين سوريين عرب مهجرين من بلداتهم مكانهم. هذا كله يتم باسم الوطنية. التي يراها البعض أيضا في نزع العلم الإيراني أو علم “حزب الله” عن قلعة حلب الشهيرة واستبدالها بعلم تركي أو علم أي دولة أو فصيل آخر. والوطنية أيضاً قد يراها البعض في خطاب كراهية طائفي يطالب بإبادة كل من في إدلب مدنيين ونساء وأطفال وعجز وعزل بوصفهم بيئة حاضنة للإرهاب. ويراها البعض في التنكيل بأسير حرب أو مجموعة أسرى والتهليل لهذا التنكيل بوصفه رد فعل على تنكيل سابق لحق بآخرين. وقد يراه البعض في استبدال محتل للبلد بمحتل آخر، واستبدال زعيم بزعيم آخر؛ وقد يراها البعض في التحدث عن السوريين بوصفهم طوائف والمطالبة بإعطاء حصة من الأرض لكل طائفة. وقد يراها البعض في تطبيق الشريعة ورفض مصطلح مدني وعلماني ويراها البعض في رفض كل ما يتعلق بالدين. كل ما سبق يسميه أصحابه (وطنية) وهو في الحقيقة ليس سوى انحيازات طائفية ومذهبية وعرقية وإيديولوجية وغرائزية تختزن الكراهية ضد الآخر الذي يمارس وطنيته المضادة والمشابهة في الآن ذاته.
لقد حصل ما حصل. بغض النظر عن موافقتنا عليه أم رفضه، وعن فرحنا به أم كرهنا له. لقد حدث وبدأت نتائجه في الظهور، المزيد من الضحايا والمزيد من التدمير والمزيد من المهجرين في ظروف لوجستية شديدة القسوة. يذكرنا هذا جميعاً بما حدث سابقاً، في 2016 وفي 2013 وفي أوقات كثيرة من العقد الماضي السوري، يذكرنا أيضاً بما يحدث حتى اللحظة في غزة منذ سنتين تقريباً، وبما حدث خلال الشهرين الماضيين في لبنان؛ يذكرنا بما حدث في اليمن وفي السودان وفي ليبيا. يذكرنا بما يحدث دائماً وأبداً للمدنيين والعزل وقود الحروب والمغامرات العسكرية وتصفية حسابات الدول والصراعات الاقتصادية في هذه المنطقة المنكوبة من الشرق الأوسط.
أليس من حقنا أن نسأل إلى متى سوف يستمر كل هذا؟ ولنحدد سوريا على الأقل التي أصبحت مشاعاً لكل القوى ولكل الصراعات الإقليمية. متى ستنتهي مما هي فيه؟ هل فعلاً كما يرى بعض السوريين أن الحل لن يكون سوى عسكرياً على طريقة ما يحدث الآن؟ وهل علينا فعلاً أن نثق بميليشيات لم تختلف في سلوكها، منذ تشكلها وحتى اللحظة، عن سلوك النظام بل زادت عليه في منعها الحريات الفردية بذريعة الدين؟ ألم يحن الأوان بعد أن تجتمع هذه الوطنيات السورية المتنافرة من أجل سوريا حقيقية يتفق أبناؤها، كلهم دون استثناء، على عقد اجتماعي جديد ينقذ ما يجب إنقاذه من بقايا هذا البلد الحزين؟ ألا يوجد عقلاء وأصحاب ضمائر (وطنية) حقة تؤمن بالوطن السوري وبالهوية السورية، لا بالدين ولا بالمذهب ولا بالطائفة ولا بالعشيرة ولا بالحزب ولا بالجهاد؟ ألا يفترض أن كوادر سورية شابة قد نشأت خلال السنوات الماضية متخلصة من كل تلك الأمراض ومتعالية عليها لصالح حداثة فكرية ووطنية يمكنها أن تكون رافعة لوطن جديد؟ أين كل هؤلاء ومن يقصيهم عن المشهد السياسي والاجتماعي السوري؟ أين التجار والصناع وكبار الحرفيين وأصحاب رؤوس الأموال والمفكرين والمثقفين والنخب الكبيرة؟ هل عجزت سوريا فعلاً عن تشكيل بدائل لكل هذا العته العسكري والجهادي النظامي والمعارض الذي لم يسبب لسوريا سوى الخراب والمزيد منه؟
يهلل سوريون يعيشون في مجتمعات جديدة آمنين دافئين ليسوا جوعى ولا مرضى وليس لديهم هاجس الخوف من التغيير المفاجئ والتهجير والقصف والموت المجاني؛ يهلل هؤلاء لحرب واضحة وصريحة سوف تسبب المزيد من الكوارث بذريعة أن لا حلول أخرى موجودة. والسؤال الوحيد الذي يخطر لي هنا: هل سيترك هؤلاء أمانهم هذا ويعودون ليكونوا جزءاً من التغيير الذي يتحدثون عنه ويعيشون تحت حكم عسكري بحاكم جهادي يرى في نفسه خليفة قادماً لفتح بلاد الشام؟